أحمد بيضون
عاد «الميثاق الوطنيّ» وما يمليه وما لا يمليه من قواعد وتصرّفات يشغل ساحة السياسة في لبنان مع تمادي الفراغ في كرسيّ الرئاسة الأولى وتطوّر الصراع الدائر في أفق هذا الفراغ.
وكان قد حَمَلني الاشتغالُ بسيرة سياسية ضافية لرياض الصلح (نشرتُها قبلَ بضع سنوات) على التدقيق مليّاً في ما يسمّيه اللبنانيون «الميثاق الوطني». فإن هذا العهد المفترض الذي يقال إنه بقي غير مكتوب قد داخله، في ما يقارب ثلاثة أرباع القرن مضت على استقلال الجمهورية، كثير من التخليط في المضمون والتغيير في الفحوى من مرحلة إلى مرحلة وبين فريق وفريق.
ولا غرو أن يكون غياب النصّ المكتوب (أو زعْمُ هذا الغياب) قد أسعف في اختلاف الروايات وسهّل لكلّ فريق تحميل «الميثاق»، بما افترض له من جلال التأسيس، ما قد يحتمل من المنطويات وما قد لا يحتمل. وأمّا أن يوجبَ النظرُ في سيرة رياض الصلح السياسية إعادةَ نظر في حقيقة الميثاق فأمرٌ لا يحتاج إلى تسويغ. ذاك أن «الميثاق» الذي يفترض أنه اختَتَم، بمعنىً ما، مساقاً للعلاقة بين مسيحيي لبنان ومسلميه وافتتح مساقاً آخر، يُفترض أنه أبرم بين شخصيتين هما بشارة الخوري، الذي أصبح أوّل رئيس للجمهورية في عهد الاستقلال ورياض الصلح الذي ألّف أوّل حكومة في العهد نفسه. يفترض أيضاً أن «الميثاق» وحّد نسبيّاً جبهة المعركة التي خاضها الرجلان وأقرانٌ لهما وكثرةٌ من اللبنانيين معهما بُعَيد تولّيهما مقاليد الحكم وانتهت بهما إلى اعتقال قصير المدّة ثم انتهت بالبلاد إلى نيل الاستقلال.
عليه تبيّن لي من فحص ركامٍ من النصوص السياسية المعاصرة لولادة «الميثاق» المفترضة والمفروض فيها ذكره لو كان موجوداً أن هذه التسمية لم تشع (بل لم تعتمد أصلاً) لأيّ عهد من النوع الذي افتُرِض إبرامُه لا في سنة 1943 ولا في السنوات الثلاث او الأربع التي تلتها. وقعتُ على مقالة يتيمة في جريدة «النهار» علّقت على البيان الوزاري لحكومة رياض الصلح الأولى لدى تقديمه إلى مجلس النوّاب فرأت فيه «عهداً أو ميثاقاً أخذَتْه البلادُ على نفسها بإجماع نوّابها على قبوله، لتُثْبِتَ وجودها كأمّةٍ مستقلّة تأخذ حقوقَها في الحكم الذاتيّ أخْذَ عزيزٍ مقتدِر».
ولقد كان على الباحث أن يجتاز ستة اشهرٍ أخرى تقريباً ليقع على ذكرٍ آخر (أو أوّل، بالأحرى)، لا يُستبعد أن يكون صدىً لسابقه، لـ»لميثاق الوطني» باسمه الكامل هذا، وذلك في خطبتين ألقى أولاهما المفتي محمّد توفيق خالد وردّ عليه بالثانية رئيس الجمهورية الذي كان قد حضر، ومعه رياض الصلح، للتهنئة بعيد المولد النبوي. وما سمّاه المفتي «الميثاق الوطني» ونال موافقة على التسمية من الرئيس لم يكن سوى البيان الوزاري (المكتوب والمنشور) لحكومة رياض الصلح، هذا البيان لم يكن مكتوباً وحسب، بل كانت شكواه من الصيغة الطائفية وتوجّهه إلى «معالجتـ»ها والقضاء على مساوئها» معلنَيْن فيه. وقد زادهما إعلاناً تصريح البيان بأن «الساعة التي يمكن فيها إلغاء الطائفية هي ساعة يقظةٍ وطنية شاملة مباركة في تاريخ لبنان». ولم يكن هذا الكلام لغواً، بل كان له ما بعده. ففي رواية فيرلونغ، ركنِ البعثة البريطانية القديم العهد ببيروت، أن الصلح «صرّح لنا مراراً بنيّته إعداد مشروعٍ لإلغاء الطائفية قبل انعقاد المجلس النيابي في اكتوبر 1944. ولكن الرئيس (الخوري) وسائر أعضاء الحكومة يرون جميعاً أن هذا الإصلاح، وإن يكن مرغوباً فيه، يفضي إلى اضطراب».
يسعنا إذن، بعد التنويه بأن ما سمّي «الميثاق الوطني» في حينه كان نصّاً مكتوباً، أن نؤكّد أن هذا الميثاق لم يكن يتعلّق من قريب ولا من بعيد بتمثيل الطوائف في مؤسّسات الدولة والحكم، على اختلافها، ولا بالقواعد التي ينبغي اتّباعها في هذا التمثيل. هذا التمثيل وقواعده كان له، في تلك الأيام، اسمٌ بسيط هو الطائفية وكان ينسب – إذا نُسب – إلى تقليد مستمرّ، من عهد القائمقاميّتين في وسط القرن التاسع عشر، ولم يكن أحد ينسبه إلى ميثاق من أيّ نوع. يشهد لذلك أن الرئيس الخوري الذي لم يكن يضمر عداءً مبدئيّاً للطائفية يسمّيها باسمها مراراً في خطبه ويسمّي منها نوعاً يرفضه هو «الطائفية العمياء» ولا يزعم قطعاً أنه كان طرفاً في «ميثاق» نظّم «المبصرة» أو «العمياء». كان بعض هذه الصيغة الطائفية قد أصبح منصوصاً على إنفاذه «بصورة مؤقّتة» في دستور 1926 وبعضٌ آخر قد أدرج في قانون الانتخاب، قبيل ذلك، اي منذ أنشئ للبنان الكبير مجلسٌ منتخب، وبعضٌ أخير (هو المتعلّق بالرئاسات الثلاث) قد تبينت ملامحه مع تكوين السلطات التي خاضت معركة الاستقلال، ولكنه لبث، بما هو «عرفٌ»، قابلاً للخرق وخُرِق فعلاً، ولو استثناءً… ولم يكن لهذا كلّه شأن بـ»ميثاقٍ» ما أبرمه الخوري والصلح في سنة 1943.
ما الذي جاء إذن في بيان حكومة الاستقلال الأولى واستحقّ أن يسميه معاصروها «ميثاقاً»؟ هو – بشهادة نصّ البيان وما أشرنا إليه من نصوص أخرى وبشهادات كثيرة لاحقة – ممكن الحصر في مقايضتين: الأولى هي مقايضة المسيحيين الحمايةَ الأوروبية (أو الفرنسيةَ بالأحرى) بوطنٍ منفتح «على الخيّر النافع من حضارة الغرب». والثانية مقايضة المسلمين الوحدةَ العربية (أو السوريةَ، بالأحرى) بوطن «ذي وجهٍ عربي» لا يكون للاستعمار «مَمَرّاً» ولا «مَقَرّاً». وأمّا محصّلة التوافق بين هاتين المقايضتين فهي أن يكون الوطن المذكور «وطناً عزيزاً مستقلّاً سيّداً حرّاً»، وهذا باعتراف الدول العربية وأطراف «التعاون الدولي». (كتابي: «رياض الصلح في زمانه»).
خلاصة هذا كلّه أن مدار «الميثاق» (إذا أصررنا على هذه التسمية!) ليس سوى الاستقلال نفسه. فلا شيء يضاف هنا إلى المعنى الأعمّ للاستقلال سوى الإيحاء بهويّة الطرفين «المتعاقدين» عليه (أي مسيحيي لبنان ومسلميه) وتعداد الأبعاد الخاصّة بالاستقلال اللبناني من عربية وغربية، في النطاق الحضاري، ومن عربية ودولية في النطاق السياسي. فأين تراه «الميثاق» الذي يقال اليوم أنه حدّد مبدأً لاختيار رئيس الجمهورية (أو أيّ رئيسٍ غيره) من بين أعيان طائفته؟ ومتى أبرم هذا الميثاق؟
تبقى إشارتان. أولاهما إيضاحٌ لما لمحنا إليه من أن توزيع الرئاسات الثلاث على الطوائف خُرِق مراراً بعد سنة 1943. حصل الخرق في حالتي الرئاستين الثانية والثالثة. وهو خرق يمكن نسبته إلى الظرف الاستثنائي في حالة الرئاسة الثالثة ولكنه حصل، غداةَ الاستقلال، في ظرفٍ عادي جدّاً في حالة الثانية. الإشارة الثانية هي أن تسمية «الميثاق الوطني»، على الرغم من حالات أحصيناها وبقيت عابرة، لم ترسخ، بالمعنى الذي حدّدناه، في الكلام الرسمي إلا بعد سنوات من الاستقلال وبيانه الوزاري.
كانت عبارة «الميثاق الوطني» مألوفة، من قَبْلُ، في المحيط السوري اللبناني. فهي قد أطلقت على عهد أبرمه قادة الثورة السورية الكبرى في سنة 1926 ثم أصبح مرجعاً لما عرف باسم «الكتلة الوطنية» في سورية. وفي الثلاثينيات، تكرّر في لبنان إطلاق اسم «الميثاق الوطني» على نصوص وضعها أصحاب أقلامٍ موزّعو الهمّ بين الصحافة والسياسة. وأما ميثاق 1943 فبقيت خطب رئيس الجمهورية والبيانات الوزارية المتعاقبة خالية من ذكره بالاسم (وإن لم تخلُ من فحواه) حتى سنة 1948. في تمّوز من تلك السنة، ألقى رياض الصلح بيان حكومته الجديدة في مجلس النوّاب جاعلاً فيه «الميثاق الوطني» مرجعاً صريحاً لسياسة الحكومة. وكانت التسمية قد وردت في كلام للصلح نفسه (في مجلس النوّاب أيضاً) في السنة السابقة. وكان رئيس الجمهورية قد عاد، بدوره، إلى حديث «الميثاق الوطني» للمرّة الأولى بعد فلتة عام 1944 التي ذكرنا مناسبتها. حصل ذلك في الخطبة التي ألقاها في مجلس النوّاب يوم 27 مايو 1948 لمناسبة انتخابه لولايةٍ رئاسية ثانية.
بعد ذلك (وليس قبله!)، أصبح ذكر «الميثاق» منتظماً في خطب الرئيس. وهو، إذ أصبح يجعل مرجعاً لهذا الميثاق خطبته يوم انتخابه في 21 سبتمبر 1943، لم يكن يجد، في معظم الحالات، حاجة إلى تعريفه إذ كان السياق واضح الدلالة على فحواه: ذاك إجماع الطائفتين على الاستقلال، بإعراضهما عمّا كان ماسّاً به في الماضي: أي عن الوحدة مع هؤلاء، من جهة، وعن وصاية أولئك من الجهة الأخرى. على هذه وعلى تلك، آثر اللبنانيون – في اعتبار الرئيس – توطيد الوحدة والسلام فيما بينهم. ولعلّ ما يرسّخ هذا المعنى الاستقلالي للميثاق اعتبار الرئيس (في خطبتين من خطبه) عاميّة انطلياس التي وحّدت ممثّلي الطوائف في وجه الاحتلال المصري سنة 1840 «ميثاقاً» هو نفسه الذي تكرر عقده بعد مئة سنة.
عليه يتبدّى أن جورج نقّاش، حين ندّد في افتتاحية مشهورة نشرها في 10 مارس 1949 بالـ»نَفْيين» اللذين «لا يصنعان أمّة»، إنّما كان يندّد بشيء عاد إلى التداول باسمه الجديد، «الميثاق الوطني»، قبل مدّة غير طويلة. وإذا كان للدارس أن يعيّن سبباً او أكثر لتلك العودة فإن نظره يجب أن يذهب – في ما أرى – نحو الانقسام الذي أخذ يستشري في البلاد مع تزوير الانتخابات النيابية في مايو 1947 ثم مع نشوب الحرب الفلسطينية وتجديد الولاية لبشارة الخوري (بعد شكري القوّتلي) في أوائلها ومع بدء تدفّق اللاجئين الفلسطينيين على لبنان وما صحبه من هواجس طائفية. كان في ذلك كلّه ما يستدعي تحصين «العهد» المضطرب الأركان بالعودة إلى «الميثاق الوطني» ولكن بالمعنى الاستقلالي الذي كان في يد الخوري والصلح أن يبرزاه في وجه المعارضة المتحفّزة.
«الميثاق الوطني» شيء إذن و»الصيغة الطائفية» شيء آخر. وكانت نية الأوّل، في سنة 1943، متّجهة إلى إطاحة الثانية! ذاك ما يصرّح به بيان حكومة الاستقلال من غير لَبْس! ولا عجب يبقى في هذا الأمر إذا انتبهنا إلى أن الطائفية كانت وما تزال رأس أمراض الاستقلال… يصحّ هذا المعنى الاستقلالي للميثاق (ولا يصحّ غيره) ما لم يكن جبران باسيل قد ارتأى أن يضع يده على ميراث كمال الصليبي بعد أن أبطأَتْ عليه تَرِكةٌ أخرى هي محطّ آماله!
كاتب لبناني
أحمد بيضون