أحمد بيضون
صرّح لبنانيون كثيرون، في العقود الأخيرة، أن التسليمَ بانتشار المنظَّمات الفلسطينية المسلّحة على الأراضي اللبنانية، ابتداءً من أواخر ستّينات القرن الفائت، وبمباشرتها «الكفاحَ المسلّح» عبْرَ حدود لبنان الجنوبية كان سبباً رئيسياً لنشوب الحرب المدمّرة في البلاد، ابتداءً من سنة 1975، ولما تخلّلها من احتلالٍ واجتياحٍ إسرائيليين ما يزال لبنان ينوء بتَبِعاتِهما المختلفة إلى اليوم. بعضُ قائلي هذا القول كانوا قد أيَّدوا، في الحرب وقبْلَها، ما يرَوْنه اليومَ ضلالاً مَهولَ الضرر. وهم، بالتالي، يَرَوْن في ما يقولونه اليوم نوعاً من النقد الذاتي يُفترض أن الانتماء الإسلامي يغلب عليه وإن يكن لا يستغرقه…
في الجهة المقابلة من الحرب، يقول بعضٌ آخر (ضئيل العدد والنفوذ، في تقديري) أن التفريطَ بالسلْم الأهلي وبالوحدة الوطنية، في تلك الآونة، للحفاظ على أرجحيّةٍ طائفية كان يهدّدها الإصلاحُ السياسي، إنَّما كان ضلالاً مُبِيناً أيضاً قابَلَ الضلالَ الآخر ليُفْضِيا معاً إلى الحرب الكارثةِ وإلى ما تلاها من كوارث. هؤلاء أيضاً يُنْزلون قولَهم هذا في خانة النقد الذاتي إذ هو لم يكن قولَهم قَبْلَ الحرب ولا في خلالها. ويفترض أن الانتماء المسيحي يغلب على مزاولي هذا النقد وإن يكن لا يستغرقهم.
ولكن هذا النقد الذي يخطّئُ الموقف الإجمالي لمعسكر أصحابه، في الحرب وفي عشاياها، لا يصلُ أبداً، في أيّةٍ من الجهتين، إلى تبرئة المعسكرِ الخصمِ ولا إلى التخفيف من جُرْمِه في الأقلّ. لا يجتاز النقد ما كان يسمّى «خطّ التماسّ»، فتبقى كلُّ جهةٍ مصمّمةً على أن الجهةَ المقابلة كانت جهةَ خونةٍ عملاء! المعسكر الذي أصبح، مع الوقت، إسلامي العنوان (وكان يضيف إلى نفسه الصفتين الوطنية والتقدمية في سنيّه الأولى) يُفترض أنه نقّل عمالته ما بين المنظمات الفلسطينية وأنظمةٍ عربية مختلفة في مقدّمها النظام السوري… والمعسكر الذي لازمه العنوان المسيحي (وكان يوصف بالمحافظ أحياناً) نقّل عمالته ما بين إسرائيل والنظام السوري أيضاً، في مرحلةٍ أولى، وانتهى جناح رئيسي منه، في آخر مطافه، إلى استدرار الدعم من نظام البعث العراقي في وجه نظام البعث السوري.
وعلى الرغم من التعقيد الظاهر في شبكة العلاقات التي نسجها كلّ من المعسكرين أو فُرضت عليه وعلى الرغم من التحوّلات المتناقضة التي شهدتها كلّ من الشبكتين… على الرغم أيضاً من التمزّقات الصارخة العنف التي عاناها كلّ من المعسكرين وطبعت، على الخصوص، النصف الثاني من مرحلة الحرب، لبث المعسكر المسيحي العنوان يُنسب إلى الولاء الغربي (الموسوم في الجهة الأخرى بالميسم الاستعماري) ولبث المعسكر الإسلامي العنوان ينسب إلى الولاء «الشرقي»، السوفياتي في هزيعه الأخير، (الموسوم عند الجهة الأخرى بميسم العداء للحرّية ولاستقرار المجتمعات).
لا يميل أيّ من ورثة المعسكرين اليوم (ولا هم مالوا قبل اليوم)، حين يزعمون مزاولة النقد الذاتي، إلى إعادة النظر في شبكة الأحلاف التي تقلّب بينها معسكرهم ذاك، لجهة وقع الأحلاف وتقلّبها على تماسك البلاد بعمومه. وهم، إذا لامسوا هذا الموضوع، لم يبلغوا منه المساواة لجهة القيمة ما بين مسلك معسكرهم في التحالف وفي استدراج الأدوار الخارجية إلى البلاد أو في منحها قواعد وأبعاداً لم تكن لها، ومسلك المعسكر المقابل. ومن هذا الباب، على الأخص، أن صاحبَ النقد الذاتي لا يخطُرُ له ببالٍ البتّةَ أن جهة «الخونة العملاء» قد تكون الجهةَ التي كان يقف فيها، هو نفسه، ويقولُ قولها. هذه الجهة يبقى مضمراً أو معلناً، في مساق النقد، أنها الجهة الأخرى حصراً وتبقى لكل من المعسكرين الممثلين بورثتهما في نظر نفسه حصانة أصليّة تجنّبه كأس «العمالة» هذا.
وهذا مع العلم أن التصريح المتبادل بتجنيب الآخر هذا الكأس أو التصريح المشترك بتذوق الطرفين معاً مرارة طعمه مليّاً إنما هو الشرط الواجب لإرساء مصالحة وطنية غير هوائية إذ هو الشرط الواجب لاعتراف جهتيّ الحرب معاً بتقدّم البلاد-الوطن إلى مقام القلب من سياستهما وبإزاحة البلاد-الساحة أو البلاد-الورقة من هذا المقام.
لا نزال حتى اليوم إذن حيالَ نوعٍ عجيبٍ من النقد الذاتي مؤدّاه أننا خرَبْنا بلادَنا عن حُسْنِ نيّةٍ وطِيبِ خاطِرٍ وأن الوطنيَّ المقدامَ لا يزال، بعْدَ النقد الذاتيّ، وطنيّاً مقداماً والعميلَ الخائنَ لا يزال، وحده، العميلَ الخائنَ، وهذا على الرُغْم من شَرِكَتِهما المؤكدة في زَهْقِ الأرواح وتدميرِ العمران والنفوس. هذا أيضاً على الرغم من تناسلهما، في ما يتعدّى تحوّلات كبرى شهدها ربع قرن مضى على انتهاء الحرب، على نحوٍ استبقى الشروط العامّة للنزاع الأهلي. فإن رأس هذه الشروط إنما هو استقطاب المجتمع السياسي الوطني بين معسكرين خارجيين، إقليميين ودوليين، أمكن لطلاب الاستقواء من اللبنانيين، تدبّرهما، على الدوام، واللوذ بهما من غير حاجةٍ إلى حرب باردة.
وما يفيده هذا النوعُ من «النقد الذاتي» الذي يستبقي خطّ تماسّ متمثّلاً في القول بـ»عمالة» الآخر أي في النبذ المتبادل بين شقيّ البلاد من الانتماء الوطني (ناهيك بما يفيده استبعادُ النقد الذاتي أصلاً) هو أن المعسكَرَيْن ما زالا على تَواجُهِهما وأن الحربَ الجديدة محتملةٌ حالما يقتضيها ويتيحها ظرفٌ جديدٌ مشؤوم: ظرفٌ من ذاك النوع الذي عوّدنا الزمان أن لا يطولَ بُخْلُه به علينا.
وأمّا ما يمنع العبور إلى نقد ذاتيّ أوفر نصيباً من الفاعلية الوطنية فهو استمرار العمالة قائمة واضحةً للعيان يتوزّعها ويتواجه على ضفّتيها معسكران: معسكران لا يمنع تهالكهما ولا حركة بعض القوى بينهما أن يكون كلّ منهما ملتزماً، في النطاقين الإقليمي والدولي، «بيت طاعة» لا يبدو قادراً على استنشاق الهواء في خارجه ناهيك بأن يقوى على مغادرته وإلقاء تحية الوداع عليه. مع ذلك، يواصل هؤلاء وأولئك الإصرار على أن البلاد تستردّ وحدتها إذا هي انحازت برمّتها إلى قولهم وإلى ما ومن يمثّلون. وذاك أن كلّ جهة، في نظر نفسها، ليست تشكيل مصالح يتكتّل فيه جانب من البلاد وإنما هي حقيقة البلاد الأصيلة وجوهرها الذي لا بدّ من ردّها إليه.
ومعلوم أن دعاوى وحدة الجوهر هذه وتجسّده في طرف من طرفي (أو أطراف) المواجهة إنما تزدهر أكثر ما تزدهر في زمن الحرب الأهلية. إذ ذاك يكون كلّ من الطرفين مصرّاً على القول أن وحدة البلاد قائمة لا عيب فيها ولا يطعن فيها واقع الحرب ما دام هذا الطرف هو البلاد كلّها أو جوهرها، في الأقلّ، وأن الطرف الآخر كميّة يصحّ إهمالهاّ أو هو منحرفٌ عَرَضيّاً عن الجوهر الواحد ولا بدّ من ردّه إلى سواء السبيل. هذا فيما تكون شقوق البلاد غير مقتصرة، في الواقع، على خطّ الفصل الذي ترسمه الحرب بين الطرفين بل يكون كلّ منهما متصدّعاً كثيراً أو قليلاً… أي أن البلاد تبدو منقسمة على مستوىً بعينه ومهشّمةً على مستوىً أبعد غوراً.
عِشْتُم (إلى متى؟) وعاشَ نقْدُكم الذاتيّ (المولودُ ميّتاً)، أَيُّهَا الإخوة المواطنون!
٭ كاتب لبناني