أحمد بيضون
■ حين نفتح «معجم مقاييس اللغة» لابن فارس على مادّة من الموادّ التي تتعاقب فيه معالجتها (أي على ما أصبحنا نسمّيه «جذراً» من جذور اللغة)، نقع فيه على شيء مختلفٍ عمّا اعتدنا الوقوع عليه في المعاجم القديمة الأخرى. فهو لا يبدأ معالجته المادّة بتعريف المصدر أو الفعل الوحيد أو الأشهر من بين الأفعال المأخوذة منها، أو الاسم أو غير ذلك من المشتقّات. وإنما يعمِد أوّلاً إلى تعريف المادّة نفسها مبتدئاً بتعداد حروفها الثلاثة (إن كانت ثلاثية) بدون إدراج هذه الحروف في لفظ بعينه ومتخلّصاً من هناك إلى تعيين معنىً عامّ واحد (أو معنيين اثنين في بعض الحالات) تعريفاً للمادّة يفترض أن يظهر له أثرٌ محقّق في مشتقّاتها كافّة.
ويشير عبد السلام هارون، محقّق «المقاييس»، في تقديمه لهذا المعجم إلى اعتماد ابن دريد (وهو معدود بين شيوخ ابن فارس) خطّة مشابهة لخطّة هذا الأخير وذلك في كتابه المشهور «الاشتقاق». ولكن كتاب «الاشتقاق» هذا مؤلّف في أعلام الرجال والقبائل وما متّ إليها بصلة، على التخصيص، يبتغي تأصيلها في العربية وليس مؤلّفاً في متن اللغة عموماً.
وفي زمن ابن فارس، ارتأى ابن جنّي (وهو من مجايليه) أن يوسّع نطاق البحث عن المعنى المشترك أو الأعمّ من المادّة الواحدة إلى جملة «التقاليب» التي تحتملها الحروف الثلاثة لهذه المادّة (إن كانت ثلاثية)… فخلص في كتابه «الخصائص» إلى وجود معنى مشترك للتقاليب الستّة التي تحتملها حروف الكاف واللام والميم مثلاً، يظهر أثره في معاني سائر الألفاظ التي تشتقّ من تلك التقاليب أي من «ك ل م» و»ك م ل» و»م ل ك» و»ل ك م»، إلخ. وقد أطلق اسم «الاشتقاق الأكبر» على هذا التوليد لألفاظ اللغة، لا من توالٍ بعينه لحروف المادّة أو الجذر، بل من كلّ توالٍ تحتمله هذه الحروف نفسها فتتشكّل منها، قبل الألفاظ المتحقّقة في الاستعمال، جملة محدودة من الموادّ المولّدة لتلك الألفاظ. على أن ابن جنّي الذي كان يتابع آخرين سبقوه فيبسط ما جاؤوا به موجزاً متناثراً وينظّمه، لم يفترض الاطّراد في وجود معنىً مشترك مجرّد ينتظم فيه كلّ مجموع من مجاميع الموادّ تلك، وإنما كان حَسْبه ان يكون ذلك كثيراً في اللغة.
ترامت هذه الأطوار في نظرية تكوّن اللغة على مدى القرن الرابع للهجرة: من كتاب «الاشتقاق» في أوائل القرن (أو في أواخر الثالث) إلى «معجم مقاييس اللغة» وكتاب «الخصائص» في أواخره… وفي عصرنا الحاضر، أقدم لغويّ مجدّد هو عبد الله العلايلي على تجاوز القول بوجود معنى مشترك بين مشتقّات المادّة الواحدة أو أيضاً بين الموادّ المتولّدة من تقليب الحروف المشكّلة لأيّ منها… تجاوز العلايلي هذين القولين إلى القول بوجود معنى يمكن تعرّفه لكلّ من حروف الجدول الهجائي بمفرده واستخرج بالفعل جدولاً لمعاني حروف العربية. ومع أن قـــــدماء اللغويين ألّفوا في «معاني الحروف» فإنهم كانوا يريدون «حروف المعاني» (العطف، الجرّ، إلخ…) فيرشدون إلى معانيها للتفادي من الخطأِ في استعمالها. ولم يكن مرادهم القول بمعنى مطّرد في اللغة لكلّ حرف من حروف الجدول الهجائي ولا القول بصلة ما بين هذا المعنى المفترض ومخرج الحرف في آلة النطق.
وما ينبغي التنبيه إليه ههنا هو أن عدم اطّراد الظاهرة، سواء أكانت معنىً قارّاً لحرفٍ منفرد أم معنى مشتركاً لمشتقّات مادّة أو لجملة موادّ، لا يُطعن في دلالتها إذا كثر التكرار بحيث يزكّيها. كذلك لا يعني إفراد الحرف الواحد بمعنىً مستقلّ أن إدراجه المنتظم في بنى الألفاظ المختلفة لا يعدّل من نصيبه في التشكيل الصوتيّ لكلّ منها، بل إن المعنى المفرد للحرف، في هذه الحالة الأخيرة، يُفترض أن يكون قد استُنبط بالتدريج من أمثلة كثيرة متنوّعة اختلف فيها موقعه وحركته وعناصر محيطه.
ليس هذا، في كلّ حالٍ، مقام الجدال في صواب المنحى الذي رسمته هذه المحاولات أو بطلانه. فهذا جدالٌ عويصٌ لا تسعه هذه العجالة. وإنما نبتغي التخلّص إلى ذكر مصبّات متعدّدة لهذا الجدال تتنافس في الخطورة.
وكان قد ظهر منها عند اللغويين القدماء، الذين لم يكن أيّ منهم، يخلو من عناية بالكلام وبالفقه، مصبّ كلامي. فإن هذا التأمّل في نظام العلاقة بين ألفاظ اللغة ومعانيها (أو بين الدالاّت والمدلولات، على ما أصبح يقال في أيّامنا) لا ينفكّ عند القدماء من علماء العربية عن جدالٍ آخر عاصره بين «أهل التوقيف» و«أهل الاصطلاح»، أي بين الذين قالوا بأن اللغة مخلوق أنشأه الذي «علّم آدم الأسماء كلّها» والذين قالوا بأنها تواضع واصطلاحٌ بين البشر.
وكان ابن فارس، مثلاً، من القائلين بالتوقيف فيما بقي ابن جنّي يصرّح بتردّده بين الموقفين. ولا غرو أن تكون مسألة «خلق القرآن» الذي قال به المعتزلة وقال خصومهم من الأشاعرة بخلافه في موقع القلب من هذه المناظرة. وقد كان ابن جنّي مثلاً ذا ميلٍ معتزلي. ويوحي ترجّحه بين موقفي «الاصطلاح» و»التوقيف» بأن المذهب الكلامي لا يحسم السؤال المتعلّق بأصل اللغة وإن يكن كلّ منهما مؤثّراً في الآخر.
لا يتخلّص البحث اللغوي هنا من البحث الكلامي إذن وإن لم يكن الأخير كليّ التحكّم في مآلات الأوّل. وقد كان علينا أن ننتظر قروناً لنرى الألسنية الحديثة تتأسّس على اعتبار اللغة معطىً يُدرس بحدّ نفسه فلا يحتاج درسه إلى البدء من أصلٍ يتأسّس فيه: «خَلْقاً» و»توقيفاً» كان هذا الأصل أم اصطلاحاً وتواضعاً بشريّاً. يسهّل حبسُ اللغة في نفسها، على هذه الشاكلة، تناولَ بناها وقواعدها.
ولكنه لا يبطل القلق الفلسفيّ المتعلّق بنشوئها ولا الأسئلة الاجتماعية المتعلّقة بأدوارها في «سياسة» العلاقات بين الناطقين بها وبين هؤلاء وعوالمهم. ذاك أفق نحاول استطلاع معالمه في وقفةٍ على حِدة…
٭ كاتب لبناني