- April 1st, 2016
أحمد بيضون
نعود إذن إلى كتاب الحقوقيّ المصري عبد الرزّاق السنهوري في الخلافة الإسلامية، وقد ذكرنا ظرف صدوره في عجالتنا الماضية. وأوّل ما يستدعي النظر في الكتاب أنه يجسّم مثالاً ضخماً لحيرة هذه الخلافة، بين أن تكون مؤسسة من أصل الدين وأن تكون مؤسسة ابتكرها المسلمون لحفظ جماعتهم وتدبير شؤونها، مستهدين في تكوينها بمبادئ وتقاليد عامّة (الشورى، البيعة) لم يبتدعها الإسلام، ولا كانت خاصّة به. وكان الأزهري علي عبد الرازق قد ذهب، في كتابه الصادر سنة 1925 (أي قبل كتاب السنهوري بسنة) المذهب الثاني في هذه المسألة، فرأى أن الإسلام لم يفرض بما هو دين صيغة بعينها للحكم. وهو ما يردّ عليه السنهوري بالقول إن عبد الرازق يخلط بين أمرين: أوّلهما ضرورة الخلافة، وهي ما أجمع عليه المسلمون، والثاني نظام الخلافة وهو ما بقي باب الاجتهاد مفتوحاً في تصوّره وإنشائه. ينكر السنهوري على عبد الرازق أيضاً قوله، إن الرسول لم ينشئ دولة في المدينة، فيؤكّد أن المعالم الكبرى لهذه الدولة برزت في عهد الرسول، وأنه لا يجوز الخلط، عند الحديث عن «الدين» و»الدولة»، بين معنيي هذين المصطلحين في أيّام الرسول ومعنييهما في أيّامنا.
والحال أن موقف عبد الرازق، حين ينظَرُ إلى مرماه الأبعد، لا يدحضه القول بالضرورة المبدئية للخلافة ولا تأكيد نشوء نوع من الدولة في المدينة على يد الرسول، وإنما يدحضه إثبات كون الخلافة والدولة وهما، في ما يتعدّى ثبوت ضرورتهما العملية وحقيقتهما التاريخية، في أيّ زمن كان، نوعٌ من الانتظام يفترضه الدين للجماعة فيجب اعتبارهما من صلب الدين في مبدئهما وفي أصول تكوينهما أو في أحد هذين، على الأقل. هذا الاعتبار هو ما يردّه عبد الرازق، إذ يعتبر مسألة الدولة وصيغتها واقعة في خارج حوزة الدين بما هو دين. والاعتبار نفسه هو ما يقبله السنهوري متكّئاً، بالدرجة الأولى، على وقائع التاريخ الإسلامي، من غير استدلال منهجي محكم على وجوب هذا القبول.
يبيّن السنهوري أن كون الخلافة واجبة الوجود يستفاد من خصائص ثلاث لها هي جمع الخليفة السلطتين الدينية والسياسية والتزامه تطبيق الشريعة الإسلامية وسهره على وحدة الأمة الإسلامية. وهي كلّها شروطٌ يتبيّن لها، عند النظر في التاريخ وفي الحاضر، حدود تتعلّق بتطوّر المجتمعات الإسلامية وبتلك التي يوجد فيها المسلمون من غير أن يكونوا غالبين عليها. وذاك أنه يوجد في الصنف الأوّل مسلمون باتوا لا يرون الشريعة خياراً يرتضون فرضه عليهم إذ لا يعدّونها أصلاً محدّداً في تصوّرهم لدينهم. وفي الصنف نفسه جماعات من غير المسلمين باتوا لا يقبلون من المجتمع الذي ينتمون إليه أقلّ من مساواتهم بغيرهم في الحقوق والواجبات. وأمّا الصنف الثاني فيرى المسلمون فيه لأنفسهم الحقّ في المساواة التامّة بغيرهم أيضاً: في حرّية الاعتقاد وفي حرّية تدبير حياتهم فرادى وجماعات بحسب معتقدهم. ولكنّهم لا يملكون في هذه المجتمعات أن يفرضوا على الكثرة من المنتمين إليها قواعد مستقاة من شرعهم، هي نفسها التي بات فرضها على القلّة يبدو غير مشروعٍ في مجتمعاتهم هم، سواءٌ أكانت القلّة مسلمة أم غير مسلمة. صفوة القول أن الإعراض عن قبول المساواة في التنوّع أصبح يستنفر في وجهه مبادئ هي التي تتعرّف بها الإنسانية المعاصرة في سعيها إلى التواطؤ على نظام قيم عليا وإلى التشريع لنفسها وسياسة أوضاعها وعلاقاتها بمقتضاه. هذا في عصر بات فيه التنوّع طاغياً في أكثر المجتمعات وأكبرها وبات من صوره الرئيسة تنوّع الأديان والعقائد وتنوّع المواقف فيها ومنها…
والحال أن السنهوري يداري هذا التحلّل الملحوظ في واقع المجتمعات لما يراه خصائص للخلافة، وهذا البعد بين تصوّره المدرسي للخلافة وبين تحقّقها الفعلي في التاريخ حتى لحظة زوالها: يداري هذا وذاك بأساليب واجتهاداتٍ شتّى أهمّها الفصل الصارم بين خلافة الراشدين الأربعة وما يسمّيه مُتَرْجِمه «الخلافة الناقصة». والمترجم يضع هذا المصطلح بإزاء عبارة المؤلّف الفرنسية التي تفيد معنى «الخلافة غير النظامية» فيما خلافة الراشدين هي «النظامية» عند السنهوري. والحال أن حبس تاريخ الإسلام بين حدّي هذه الثنائية أمرٌ لا يستقيم قبوله من غير تمحيص له وتناول للوقائع التي تحمل على الشك في تماسك منطقه. وذاك أن إعظام المؤرّخ المسلم أشخاص الراشدين الأربعة لا يعفيه من مواجهة الأسئلة الكبرى المتعلّقة بوقائع خلافتهم. فإذ يلاحظ السنهوري أن مرحلة الراشدين اقتصرت على 30 سنة فيما دامت «الخلافة غير النظامية» نحواً من 13 قرناً يحتمي بـ»الإيمان» وبـ»المُثُل» التي يراها ملزمة للمسلمين بطلب العودة بالخلافة إلى رشدها الأوّل. وهو بهذا يعفي نفسه إعفاءً سهلاً من الإجابة عن السؤال المتّصل بتعذّر تلك العودة طوال هذه القرون وبقصر المدّة التي قيّض فيها للرشد أن يبقى مستتبّاً خلف دفّة السفينة الإسلامية.
فهل يسع الباحث أن يطمئن إلى كون تلك الخلافة الأولى لم تكن تشكو خللاً ما هو الذي جعل العودة إليها أمراً محالاً في مدى الأزمنة التي انقضت على أفولها؟ كيف توصف هذه الخلافة بـ»الانتظام»، من جهةٍ أخرى، فيما تفتتحها حربٌ في جزيرة العرب: حربٌ لم تكن «الردّة» عنوانها الوحيد، بل كان بين بواعثها رفض الاعتراف للخليفة بالحقّ في ما كان يؤدّى للنبي من حقوق؟ وكيف توصف بـ»الانتظام» خلافةٌ اختير كلٌّ من الأربعة الذين تسنّموها بطريقة مغايرة لتلك التي رعت اختيار أقرانه؟ وكيف لا تثير سؤالاً يتعلّق بانتظامها صيغةٌ اغتيل ثلاثةٌ من الأربعة الذين مثّلوها وقيل إن الأوّل (الذي اقتُصرت خلافته على سنتين من الزمن) مات مسموماً هو أيضاً؟ وكيف لا يستأهل وقفةً إفضاءُ هذه المرحلة، بعد قتل الخليفة الثالث، إلى حربٍ أخرى أفدح من الأولى فتكاً وأعمق تصديعاً لوحدة الجماعة وأبعد أثراً في مواقف كسور الجماعة بعضهم من بعض ومن الدولة الإسلامية؟ وما القول، على الأعمّ، في استواء هذه المرحلة، بوقائعها المتعلّقة بالخلافة منذ يومها الأوّل، مادّةً للشقاق في صفّ المسلمين وسبباً لمجابهات بينهم لا يحصر أذاها؟ هل يكفي قول السنهوري إن علينا التمسّك بالمثل الأعلى الذي قدّمته خلافة الراشدين جواباً عن كلّ ما استثارته هذه الخلافة أو واجهته من مشكلاتٍ أخفقت في معالجتها إخفاقاً أفضى إلى زوالها؟
تلك أسئلةٌ لا نعثر عند السنهوري على أجوبةٍ شافيةٍ عنها. ولكن هذا المؤلّف ينكبّ على المقارنة بين هذه المؤسسة الإسلامية ونظام الحكم الديمقراطي الذي كان قد استوى، في أيّامه، مثالاً وفرض مزاياه على أهل النظر. لهذه المقارنة السنهورية نكرّس عجالتنا المقبلة.
كاتب لبناني