- March 18th, 2016
أحمد بيضون
شاهدتُ هذه المسرحية متأخّراً جدّاً. وما سأقوله عنها قد يبدو متأخّراً أيضاً. غير أنني تصفّحت ما على الشبكة من مراجعات صدر أكثرها بُعَيد انطلاق العروض، ووجدتُ أن عندي ما أضيفه.
في الأسبوعين الأخيرين اللذين يبدو (ما لم يطرأ جديد) أنهما التمديد الأخير للعروض، لا تزال القاعة تغصّ بالحضور ولا يزال الحجز ضرورياً، قبل أيـّام، للحصول على مقعد يمكن، إذا كانت المدّة الفاصلة قصيرةً، ألاّ يكون في الموقع المرغوب فيه من الصالة… هذا مع العلم أن المسرحية باشرت عروضها في آذار/مارس 2015، وأنها تنقّلت بين مسرحي «مونو» في شرق بيروت و»بابل» في غربها، وأن عدد العروض البيروتية سيكون قد بلغ نيّفاً وثمانين عند انتهاء التمديد الحالي. هذا ولا يبعد أن تقع، في المسرح، على من يسألك إن كنت تشاهد المسرحية للمرّة الأولى. ولقد قيل كلامٌ يردّ هذا الإقبال، أو بعضه، إلى عوامل «إثارةٍ» ذات طابعٍ جنسيّ ظهرت في «التسويق» قبل التمثيل. وهذا تعليلٌ تحملك مشاهدة العمل على التمنّي أن يكون مجانباً للصواب، كثيراً أو قليلاً، ضنّاً منك بكرامة الجمهور…
أشير إلى «فينوس»، مسرحية الأمريكي دافيد إيف، وندينُ بصيغتها المعرّبة (أو الملبننة، بالأحرى) إلى مسرحيَّين ذوي خبرةٍ متعدّدة الوجوه، في الميدان، عملية وتعليمية، وهما غبريال يمّين ولينا خوري. أمّا عبء الإخراج فوقع على المخرج الشاب جاك مارون، وقد أظهر في سنوات خبرته القليلة نسبيّاً، فضلاً عن المقدرة الإخراجية، مبادرةً في تشكيل خليّة حوله، من الممثّلين المكرّسين والناشئين، سواءً بسواء، أطلق عليها اسم «محترف الممثّلين». وهي ترمي إلى فتح الأبواب أمام هؤلاء لتحسين كفاءتهم وللعمل في المشاريع المسرحية. وهي تجد امتداداً لها في خليّةٍ أخرى لتيسير الإنتاج المسرحي…
العنوان الأصلي لمسرحية إيف هو «فينوس ذات الفراء»، وفيها بدورها «تضمينٌ» لقصّةٍ من تأليف النمساوي زاخر مازوخ تحمل العنوان نفسه وترقى إلى سنة 1870. فما تعرضه مسرحية إيف إنّما هو تحوّلات المحاولة التي يقوم بها الكاتب – المخرج المفترض للعثور على ممثّلة تتولّى الدور الأنثوي في مسرحية له هي، في الواقع، استعادةٌ معدّلة لقصّة زاخر مازوخ. وهذه قصّةٌ تنطوي بدورها على ازدواجٍ في السرد. فهي تبدأ من رجل يعرض على امرأة أن تسترقّه لأنه يجد لذّته الجنسية في المهانة والألم. ولكنها ـ أي القصّة ـ سرعان ما تفضي إلى تلاوة تعرضها المرأة لمخطوطٍ يروي حكاية رجلٍ آخر يُسْلِم نفسه لعلاقةٍ من هذا القبيل نفسه، وتفترض القارئة أن ما جرى له يصلح عبرةً من شأنها إخراج السامع من محنته. عليه يكون الاقتباس الملبنن لمسرحية إيف نوعاً من الطبقة الثالثة أو الرابعة (الجزئية، في الأقل) تجيء لتُمازِج الطبقتين المازوخية والإيفية (وكلاهما مزدوج) أو لتمازج الثانية من هاتين، إن أردنا الدقّة.
ها هنا نستحبّ الإشارة إلى أمرين: الأولى تخميننا أن «الفراء» في العنوان إنما هو إشارةً غير خفيّة إلى ما في شخصية الأنثى، في قصة زاخر مازوخ وفي ما تفرّع عنها، من نعومةٍ ومن حيوانيةٍ وافتراسٍ في آن. والثانية أن ما نسمّيه «المازوشية» (بعربية اعتمدَت اللفظ الفرنسي لا الألماني) إنّما اشتُقّ من اسم زاخر مازوخ، في حياته، بسبب هذه القصّة، على وجه التحديد، من بين أعماله كلّها… وذلك على النحو الذي اشتقّ منه لفظ «الساديّة» (وهي النزعة المضادّة للمازوشية والمكملة لها في آن) من اسم المركيز الفرنسي دو ساد.
في أيّ حال، تُقْتصر مسرحية إيف، وبعدها تلك التي تشاهَد في بيروت، على شخصيّتين: رجل وامرأة. وقد سبقَت الإشارة إلى أن الرجل (وهو في مرحلةٍ متقدّمة من شبابه) كاتب- مخرج يبحث عن ممثلةٍ تَصلُح للدور الأنثوي في مسرحيّةٍ كتبها بالاستناد إلى قصّة زاخر مازوخ. وعلينا الإشارة الآن إلى أن المسرحية تبدأ بإعلان هذا المخرج ما يشبه اليأس من العثور على الممثّلة التي في خاطره… وهذا بعد تجارب كثيرة مع المرشّحات نقع عليه في ختامها منهكاً مضطرباً. هذان الانهاك والاضطراب تدخل عليهما الشابّة فاندا، في آخر النهار، ومعها حقيبتها الكبيرة وعلى جسدها من الثياب ما تظهر مساحة السَتْر المرجوّة منه ضئيلة على كثرة ما يُحْصى له من قِطَع…
لا تخفي الشابّة شيئاً من الابتذال الذي يبدو وكأنّه سجيّتها. لهجتُها موغلةٌ في التصنّع وبذاءةُ ما يرِدُ على لسانها، بين حينٍ وآخر، من ألفاظٍ وعباراتٍ سوقيّة، لا تستوقفها أو تحملها على التردّد البتّة، بل تجري هذه الألفاظ والعبارات في كلامها مجرى سواها ولو ان المتحدّثة تبدو مدركةً ما تُدخله البذاءة على الكلام، حيثُ لا تُنتَظر، من عُلوّ في الجَرْس وشدّةٍ في الأثر. باستثناء الاقتحام والإصرار، لا يظهر لمخرجنا ما قد يؤهّل هذه المرشّحة لأداء الدور الملحوظ في مسرحيّته. ولكنها تنتهي بعنادها وشدّة انفعالها إلى حمله على الدخول معها في ما يبدو، أوّل وهلة، مجرّد اختبارٍ مهني ثمّ ينقلب شيئاً فشيئاً إلى نوعٍ من الانقلاب الوجودي في شخص المخرج كان مكتوماً في المسرحية وأخرجته أطوار هذه العلاقة الجديدة، بالمرشّحة.
لا بغيةَ لنا هنا أن نجاوز الإشارة إلى «استلام السلطة» الذي يحصُل من جهة الأنثى، وهي تؤدّي الدور المفترض لها من جهة المخرج، ولا إلى سقوط المخرج من جهته في مازوخيته المكظومة بحيث يبدو وقد استسلم، لا في الأداء المسرحي وحده، بل في ما يتعيّن علينا أن نسمّيه «الواقع» لسلطان أنثى اقتحمت شخصه من خلال الدور الذي راحت تؤدّيه في مسرحيته. لا نجاوز الإشارة إلى ما أراد زاخر مازوخ أن يصرّح به قبل إيف: وهو أن ما يشارُ إليه بلفظ الحبّ إنما هو، في الأصل، علاقة سيطرةٍ وعبوديّة وأن الأنثى فيه هي، على ضعفها من وجوهٍ أخرى، الطرف الأقوى… وهذا لكونها المشتهاة فيما الذكر هو المشتهي. لا نجد فائدة في تفصيل هذا الأمر فهو ظاهر «الحبكة» من زاخر مازوخ إلى جاك مارون مروراً بدافيد إيف الذي يقول المخرج اللبناني أنه توخّى البقاء أميناً لعمله وهو يخرجه ملبنناً.
نقصر همّنا على الوقوف لحظةً عند أداء بديع أبو شقرا وريتا حايك… بل عند أداء الأخيرة على الخصوص. توجب بنية المسرحية المزدوجة (المزدوجة في أدنى تقدير) على الممثّلَيْن أن يكونا تارةً ما هما أصلاً (أي المخرج وزائرته المرشّحة) وطوراً ما يملي على كلّ منهما دوره الآخر: دوره المفترض مسرحياً لا واقعيّاً. يَعْبُر الكاتب – المخرج، بما هو ممثّل، من حال الإمساك بزمام اللعبة كلّها إلى حال العبودية لمن يُفْترض أنها الطرف الأضعف وأن عليها أن تبقى ـ إذا هو تقَبّلها ـ رهناً لإشارته. ولكن هذا العبور يحصُل بالتدريج، من مرحلةٍ في المسرحية إلى مرحلة، فيبدو أطواراً في شخص الرجل ويوشك هذا التطوّرُ (الذي لا تلبثُ المرأةُ أن تبادلَه إيّاه طائعةً) أن يحجب تزامُنَ الوجهين في هذا الشخص نفسه.
ما يبدو أنه هذا التزامن (ويَفْترض بالتالي مقدرةً تمثيلية استثنائية الألَق) هو تنقّل ريتا حايك المستمرّ، السريعُ الوتيرة، بين ما يُفترض أنها هي في «الحياة»، أي الفتاة المغوية بلا شهوة والبذيئة بلا اكتراث، إلى الشخصية المرهفة، الشديدة الأسر، التي يفترض أن تكونها وهي تؤدّي الدور الذي حضرت لتؤدّيه. في هذه الحالة الأخيرة، تبدو هذه الشابّة وقد استردّت قرباً غريباً إلى «واقع» ما: إلى وجهٍ مألوف فيما يتعدّى الصفة الدرامية لما تؤول إليه العلاقة بينه وبين الوجه الذكر، الشريكِ في اللعبة. فيبدو أن «واقع» هذه الشابّة، أي الابتذال والبذاءة، هو الأَوْلى، بما هو «قناعٌ» أو «واجهةٌ» اجتماعية، دفاعيّةٌ على الأرجح، بأن يعدّ بضاعةً مسرحيّة. هذا بينما يبدو دورها المفترض مسرحيّاً، مقرّباً لها إلى سويّةٍ ذاتِ عموميّة تنأى بها عن المسرح شيئاً ما وتنحو بها نحو «الحياة» أو نحو «الواقع». عليه يبدو «وجود» هذه الشابّة مقلوباً… تبدو وكأنها تلبس «شخصها» مقلوباً: إذ هي ممثّلة في «الواقع» و»واقعية» في التمثيل. ذاك ما استطاعت ريتا حايك أن تكونه أو أن تظهره في هذه المسرحية التي مدارها «المسرح وظلّه»، على قول الآخر.
… وأمّا معنى ذلك فهو أن المسرح لا يوجد بالضرورة حيث نظنّ. وإنّما المسرح أيضاً حالُ الدنيا.
كاتب لبناني
أحمد بيضون