عصبية المذهب

أحمد بيضون

مايو 9, 2015

يتعرّض المذهب في حركته، بما هي مواجهة لخصومه وبما هي مواجهة بين أطرافه، إلى نوع من «التصنيع» بما هو جماعة اجتماعية اقتصادية واجتماعية سياسية. فهو لا يكون موجوداً بهذه الصفة في مستهلّ حركته بل تكون حركته، بالدرجة الأولى، حركةً نحو الانوجاد. ليس أهل السنّة أو أهل الشيعة، وهم الموزّعون في أطراف الأرض وبين دولها، جماعتين اجتماعيتين متمايزتين ولا مستتمتي الأوصاف. بل هما متداخلتان في كثير من المجتمعات توجدان فيها معاً وكلّ منهما شتات بين مجتمعات كثيرة… ولن يصبح أهل هذا المذهب ولا ذاك مماثلين بجماعتهم لما كانت عليه الجماعة القومية المسايرة للتعريف المدرسي. ولكن جماعة المذهب تبدو، وهي ماضية في نزوعها الجديد إلى التكوّن، مبطنةً طموحاً دون تحقيقه الأهوال إلى مزاحمة الجماعة القومية والتجمّع الأممي، بما هما مبدآن لاجتماع البشر السياسي، في آن معاً. بل إن هذه الجماعة تبدو صيغة راهنة للشبكة الأممية تتآزر أطرافها في الهمجية وفي غيرها.
غير أن ما لا يستغنى عنه لفهم المواجهة الجارية أن ثمّة مصالح يحدسها المنتمي إلى هذا أو ذاك من المذهبين، تتعلّق بمصائر المجابهة ويناله منها كثير أو قليل. وعلى غرار ما كانت الحال في الحروب الرهيبة بين القوميات، لا يختصر جواب المسألة المطروحة بالقول أن «الفقراء» لا شأن لهم بما يجري وأنهم ليسوا سوى اللحم الذي تستهلكه المدافع وأن أهل السلطة الاجتماعية السياسية من حلف الطبقات المسيطرة هم من يرث أرض الحرب الخراب ومن عليها.
وذاك أن المواجهة التي تحفز اتّجاه المذهب إلى التكوّن بما هو وحدةٌ سياسية أوّلاً تحدث تغييراً بالغاً في كلّ من مكوّناته المعرّفة بأوطانها أي الطوائف. فيتقدّم، على التعميم، ضعاف الشأن، على اختلاف المستويات والنِسب، ويبرز المتديّنون والمتظاهرون بالتديّن والمستجدّون فيه ويُختصر طريق التصدّر للجيل الفتيّ القادر على القتال وللقادرين على مساندته ويفسح في مجال البروز لمتطلّعين جدد إلى مزاولة السلطة، على اختلاف صورها، وللمستعدّين لطاعتها. وينتشر من المركز (أو المراكز) نحو الأطراف تيّارُ أعرافٍ وطقوس وأنواع سلوكٍ أخرى ومسلّماتٍ يعزّز التشابه والامتثال وينفُر من التفرّد، على أنواعه، ومن النقد. ويعزّز هذا التيّار تيّارٌ من المعونات والمنافع قد يسفر عن رفعٍ من إمكانات الجماعة غير مناسب لطاقاتها الأصلية قطعياً. فيكون من ذلك أن يزيدها تبعية وأن يجعل كلّ زوغان تبديه عن الخطّ المركزي محفوفاً بخطر الانكماش الصاعق.
هذا التغيير كلّه، إذ يقدّم قوماً في الجماعة، يؤخّر قوماً آخرين ويعيد شقّ الصفّ بحسب خطوط جديدة. ولكنّه يرجّح غلبة التيّار المركزي وينحو إلى طمس ما يخالفه أو قمعه. ولا تنفع الترسيمة الطبقية وحدها في فهم ما يواكب تكوّن المذهب بما هو جماعةٌ كبرى من تحوّل في أوضاع الجماعات الفرعية. بل الأَوْلى تصوّر ترسيمة تولي اهتماماً مركّباً للصراع في كلّ فئة أو قطاع من فئات الجماعة وقطاعاتها وللصراع بين الأجيال وللأفق الذي يرسم حدّه المجتمعُ الكلّي ونظامُه للجيل الناشئ ولمنظومات القيم المعتمدة في التربية على اختلافها. هذا فضلاً عن خطوطٍ تقليدية يجري عليها تَشَقّق الطائفة الأصلي من قبيل العشائر والعوائل والمناطق وما جرى هذا المجرى… في كلّ حال، يبقى التتبّع الحسيّ لمسار التحوّل هو الواجب الملاحظة من غير اختزالٍ جائر ولا افتراض لتوجّهٍ جامعٍ ما يخرج من مخيّلة المحلّل جاهزاً.
وأما الذي ينبغي أن يبقى ماثلاً للعيان فهو أن لعصبية المذهب قواماً مستتمّ الأبعاد وأن المنتمين إليه يسعهم أن يجدوا لأنفسهم، حينما يشتدّ وطيس المجابهة، أسباباً لا تقبل الإهمال ولا الإلحاق بغيرها للخوض في المجابهة مع الخائضين. وهذه أسباب تختلف باختلاف الفئات والشرائح، لا ريب في ذلك، ولكنها تقوّي العصب الجامع وترهف حسّ الانتماء إلى الجماعة المذهبية، بعمومها، والتضامن بين أجنحتها. وهي، أي الأسباب، لا تستثني نوعاً من المصالح. فتتجاور، في الحساب القريب، الحميّة الدينية والرغبة في النهب أو السبي مثلاً. ولا ننْسَى الاستيطان الذي ظهرت له بوادر قويّة (من إخلاء لجماعات ومن حلول محلّها في مواطنها) في الحروب الجارية تحيل إلى المثال الصهيوني وإلى ما كانت قد ارهصت ببعضه الحرب الأهلية اللبنانية أيضاً.
في الحساب البعيد، يتداخل ما تتيحه الغلبة المذهبية من استعلاءٍ يستشعره الغنيّ والفقير أو خذلان يحيق بالجماعة كلّها أيضاً وما يتوقّف على الخذلان أو الاستعلاء من منافع بعضها ماديّ جدّاً ومن فرص ترقٍّ متنوع الصور للجيل الخائض في الصراع ولأجيالٍ تليه. وهذا مع العلم أن البشر قد يقدّمون الاعتبار المتعلّق بعنفوان الجماعة أو ما جرى مجراه من اعتبارات معنوية على كلّ انتفاعٍ ذي طابع ماديّ حاصلٍ أو ممكن وقد يجدون أنفسهم في حال دفاعٍ عن النفس أيضاً. هذا كلّه يستدرج إقبالاً على التضحية لا تلمّ به الصيغ القاصرة من الفكر الماديّ ولا تكفي للاحتيال في تفسيره الصيغ الرهيفة منه.
هل نبقى، والحالة هذه، على القول الماديّ، بأن جمهور الحرب المذهبية جمهورٌ مخدوعٌ أو مضلّل يجرّه إلى حتفه «الاستقلال النسبي» للبنية الفوقية؟ نعم نبقى، بمعنى ما، على هذا القول… فإن التعبئة المذهبية تعمي عن التراتب المستمرّ في المذهب الواحد بين المراكز والأطراف وعن تفاوت المصائر الراهن أو المقبل بين أطراف مختلفة الموائل والقوّة وعن أفق القهر والقمع الذي تعد به سلطة مذهبية تخرج منتصرةً من حرب وعمّا يلي ذلك من تمييز وفساد شنيعين. وهي، أي التعبئة، تعمي عن سواد المصير العامّ لكلّ مجتمع تهدمه الحرب الأهلية فيخرج منها – أو يخرج ما بقي منه – عارضاً الديار الخربة التي يقيم فيها للاستتباع والبيع لقاء الحماية والإعمار. قلتم: تحرّر واستقلال؟ قلتم: نموّ وعدل؟ قلتم: كرامة أيضاً؟!!!
٭ (بعد هذه المقالة، أنقطع أشهرا معدودة عن إرسال مقالتي الأسبوعية إلى «القدس العربي». أشكر لإدارة الجريدة تفهمها رغبتي في التفرغ لإنجاز عمل آخر تأخر كثيرا. وأرجو أن أحظى من قراء هذه الزاوية برحابة صدر مماثلة. إلى اللقاء!).

عصبية المذهب

أحمد بيضون

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s