«ألاقي زيّك فين يا علي؟»

أحمد بيضون

شعرتُ أن حظّي أسعدني بحضور هذه المسرحية… وكان ممكناً جدّاً أن يصرفني عن حضورها ازدحام العروض أو كثرة المشاغل. بل إنني شعرتُ أن كلّاً من المشاهدين الذين اكتظّ بهم مسرح بابل البيروتي قد شاطرني هذا الشعور حين وقفنا، في نهاية العرض، مصفّقين بحماسة مدوّية للينا أبيض ورائدة طه… كنّا نختتم أمسية باهرةً حقّاً.
يبدو العمل عمل أخذٍ باليد تولّته لينا أبيض لاستعادة رائدة طه السيطرة على حياتها. ولا غروَ أن تكون هذه العملية قد استغرقت زمناً طويلاً واقتضت جهوداً ومعاناة مضنية. ولا ريب أنها بدأت بمعنىً ما في وقتٍ سبق تعرّف كاتبة النص ومؤدّيته على المسرح رائدة طه إلى المخرجة لينا أبيض. وحيدةً تبقى رائدة، مدّة العرض. تبقى جالسة، معظم الوقت، بثوبها الفيروزي البسيط على الأريكة البسيطة، لا تسعفها إلا صوَرٌ متقشّفة أو مقاطعُ فيديو قصيرة تستقبلها الشاشة التي خلفها بين حينٍ وآخر.
ومن المشهد الأوّل الذي تستعيده رائدة، وهي تباشر، وقد بلغت الخمسين، تمريناً عسيراً هو أداء سيرتها الفعلية على مسرح، يظهر بُعْدا العمل الشخصي والسياسي في حال الاتّحاد المدهش التي ستبقى حالهما مدّة العرض كلّه.
المشهد الأوّل مشهد اغتصاب. لا منجاة من الإحالة على اغتصاب فلسطين فهذا اسم الحدث العامّ الذي اغتصب حيواتٍ كثيرة منها – بمعنىً ما – حياةُ رائدة. ولكن في هذه الإحالة سهولةً زائدة. فكأن في الاغتصاب الذي يستعيده المشهد نوعاً من الغمز الساخر من قناة ما آل إليه الاغتصاب الأصلي. وذاك أن الفلسطينية رائدة تبقى هي من يتعرّض لمحاولة اغتصابٍ في شقّتها في تونس ولكن صاحب المحاولة ليس إلا واحداً – لن نعرف اسمه – من ذوي السطوة في قيادة الثورة الفلسطينية التي كانت قد استقرّت هناك، حولَ ياسر عرفات، بعد خروجها من بيروت…
هي إذن ضربة معولٍ أولى في سحر الثورة تباشر بها رائدة حكايتها إذ توحي إلينا أن في وسعها أن تقول كل شيء (تقريباً!) فيما سحر الشيء يقوم على كتمان جوانب منه بالضرورة. والحادثة نفسها مدخل أوّل تعرضه علينا رائدة إلى حال الفقدان التي بقيت فيها منذ منيت باليُتْم وعجز ياسر عرفات نفسه (وكان قد تكفّلها وأخواتها وكانت تعمل في مكتبه في تونس) عن رأْبِ صُدوعها.
شعرت الشابّة أن والدها وحده كان القادر على ردّ هذه الغائلة عنها… ولم يلبث شعورُها أن تأكّد حين بدا أن أبا عمّار الذي شكت إليه أمرها لم يبدُ، في ما يتعدّى التهديد والوعيد، أنه زحزح المعتدي عن موقع نفوذه. ستبقى رائدة مستوطنةً فقدان الأب هذا. ستبقى في الالتباس الضخم الذي مثلته لها خسارة والد سقط في سبيل فلسطين ولكنه – إذ سقط – وقعت شهادته في وسطٍ أخذت أهواؤه تتقاذف معانيها وترك زوجته وبناته لثورةٍ كان فيها من يرعاهنّ لقاءَ أدوارٍ استولَت على حياتهن وكان فيها أيضاً من رأى إلى الوالدة فريسةً محتملة قبل أن يوجَد من يحاول اغتصابَ البنت معتدّاً بنفوذه وافتقادها إلى السنَد.
وذاك أن رائدة طه هي ابنة علي طه. وكان والدها المنتمي إلى منظّمة أيلول الأسود (المشتقّة من منظّمة فتح بعد الخروج من الأردن) قد سقط في عملية قادها، ومعه شابٌّ آخر وصبيّتان، تمثّلت في خطف طائرة لسابينا البلجيكية في سنة 1972 إلى مطار اللدّ الإسرائيلي سعياً إلى إطلاق أسرى فلسطينيين. قُتل الشابان وأُسرت الفتاتان عندما اقتحمت الطائرةَ قوّةٌ إسرائيلية قادها إيهود باراك وكان فيها بنيامين نتانياهو… وقد لبثت الفتاتان في الأسر عشر سنوات ثم أفرج عنهما في مبادلة.
كانت رائدة في السابعة عندما أصبحت ابنة شهيد: الكبرى بين بناتٍ أربع، وكانت والدتها فتحية في السابعة والعشرين…
في موضع الالتحام من بعدَي الأداء الذي تقوم به رائدة لنصّها يقع ثنائيّ «الشهادةـاليُتْم» ويلابسه ثنائيّ «الشهادة-الترمّل» الذي يستولي على والدتها استيلاءً يقوم بإخراجه مَن حولَها إخراجاً طقسياً موسوماً بالعنف وشدّة الإيلام.. والاستيلاء هو المصطلح المُحْكَم لتسمية هذه الحالة. وذاك أن الشهيد لا يقدّم حياته وحسب وإنما يتخلّى للجماعة عن الكثرة في أبعاد وجوده بما هو شخص وعن الشبكة البشرية المنعقدة حول شخصه، أي عن عائلته أيضاً. وإذا كانت العائلة تلفي من يرعاها في مؤسّسات الثورة ومن يخصّها بالعطف في دوائر ضيقة وواسعة من محيط الثورة البشري فإن لذلك مقابلاً هو أن تتقبّل العائلة اختزال الشخص الذي فقدته إلى صورته المؤمّمة وأن يختزل كلٌّ من أعضائها نفسه إلى الدور الذي تمليه علاقته بصورة الشهيد تلك لا بفقيده-الشخص. هكذا يملي استشهاد علي على فتحية أن ترى إلى نفسها امرأةَ شهيد أوّلاً وآخراً ويملي على الصغيرة رائدة وعلى شقيقاتها أن يكنّ بنات الشهيد الذي هو صورةٌ متجمّدة الملامح والذي يدلّ اسمه العلم على صورته تلك لا على شخصه الذي كان…
يملي هذا التحويل المباغت بما فيه من قسوةٍ وبما له من إغراءٍ أيضاً أدواراً عامّة تكاد أن تستغرق أشخاص الأحياء وتأخذهم من أنفسهم. في هذه الأدوار شكليّاتٌ كثيرة وفيها ممنوعات بينها كلّ ما يشي بالانكسار وفيها، فضلاً عن التكفّل، بوجهيه الماديّ والاعتباري، تعويضاتٌ شتّى من بينها الانخراط في شبكة العائلات الشبيهة والتصدّر في مناسبات شتّى والرقص «الثوري» والأسفار التي يستدعيها تمثيل الثورة ولا تخلو من ترفيه، إلخ.
على أن إبداعَ رائدة طه إنّما يتمثّل، في شطرٍ جسيمٍ منه، في كشف اللعب الذي ينطوي عليه هذا النوع من الأدوار من أقصاه إلى أقصاه وفي كشف ما يتخلل اللعب من غشٍّ في اللعب أيضاً. في حالة الطفلات يبدأ اللعب فور وصول خبر الاستشهاد إذ يستمتعن، مثلاً، بالخلاص المؤقت من ممنوعات صغيرة رفعَها انشغالُ والدتهن بمصابها. وفي حالة الوالدة يبدأ اللعب فوراً أيضاً إذ تجد نفسها محاصرةً بما ومن يملي عليها بلا هوادة قواعدَ الحزن والحداد الموائمة لحالتها. هذا اللعب يستمرّ طويلاً طويلاً. فمع أن العائلة تستعيد بعد حينٍ خلوتها إلى نفسها وإلى خسارتها فإن شهادة الشهيد تبقى ماثلةً في أفق قريب تحكم حركات الإناث الخمس اللواتي خلّفَهُن وسكناتِهن. عليه يتواصل اللعب. ما الأفق الذي يفتح عليه هذا اللعبُ علاقةَ رائدة بدورها بما هي «ابنة الشهيد»؟ وأين يقع عمل أبيض – طه من الفنّ الفلسطيني، في طوره الأخير؟ وهل من جديد يشير إليه في وجدان الفلسطينيين هذا العمل وأشباهه…إذ نحن نرى – أو نفترض – له وجوهَ شَبَه بسواه من الأعمال الحديثة العهد؟
تستحقّ هذه الأسئلةُ (بسببٍ من قيمة العمل كلّه، بالدرجة الأولى) أن نخصّها بعجالتنا المقبلة.
كاتب لبناني

أحمد بيضون

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s