متى وُجِد الاقتصاد؟

أحمد بيضون

يَعْرِض لك أحياناً كلامٌ يحلو إلقاؤه على عواهنه. تعلم أنه ذو خطر وأنه قد لا يصحّ أن يُعتدّ به بعد التمحيص إذ قد يتبين أنه «ليس بشيء» على ما كانت تقول العرب حين تقع على قولٍ لا يقوم على صحّته دليل بل تقوم الأدلّة على بطلانه.
من ذلك ما كانت قد أوحت به إليّ قراءة قديمة لكتابٍ معترفٍ بمكانته في حقله وقد عدت إليه في هذه الأيام الأخيرة. ذاك هو كتاب الاقتصادي النمساوي (المجري الأصل) كارل بولانيي «التحوّل الكبير» وقد صدر سنة 1944 أي في العام الأخير من أعوام الحرب العالمية الثانية، وكان مؤلّفه قد أصبح، منذ انتصار الهتلرية في ألمانيا، مقيماً في لندن.
لا يمثّل ما أريد استخراجه من كتاب بولانيي موضوع كتابه المتصدّر وإنما هو أسانيد لنظرة يمكن استنباطها من الكتاب. موضوع الكتاب هو الأزمة العالمية التي عاناها الاقتصاد الرأسمالي بين أواخر العشرينيات من القرن الفائت ونهاية الحرب العالمية الثانية. وهو ما واكب هذه الأزمة من تحوّل سياسي مهول مثّل نشوء الهتلرية وطغيان مفاعيلها صُلْبَه وأبْلَغَ ظواهره. هذه الأزمة يرى فيها بولانيي تعبيراً عن موت النظام الاقتصادي الليبرالي الذي كانت أوروبا قد شهدت ولادته قبل ذلك بقرنٍ من الزمان. ولنشر ههنا إلى أن هذا النظام هو نفسه الذي أعلن فرنسيس فوكوياما، بعد أقلّ من نصف قرن كان قد مضى على صدور كتاب بولانيي، سيادته المؤبّدة على العالم: على ذاك العالم الذي كان ينفض عنه غبار جدار برلين المهدوم!..
على أن بولانيي لا يصل إلى إعلان الوفاة هذا إلا بعد تأريخ يجهد في ضبطه لنشأة الاقتصاد الليبرالي وما اجتازه من أطوار. وما يميّز طريقة بولانيي في وضع هذا التاريخ (وما يجعل روايته ذات أهمّية قصوى للمجتمعات الواقعة في خارج مسرحه الأوروبي) إنما هو وضعه مسار النظام المؤرّخ له بإزاء الأنظمة غير الرأسمالية التي كان على النظام الناشئ أن يجاذبها ويسعى في تدميرها: سواءٌ أتعلّقَ الأمر ببنى وشبكات كانت تحمي الأفراد في المجتمعات الأوروبية من التذرية (التي هي شرط علاقة العمل المناسبة لرأس المال) أم تعلّقَ بالجماعات الأصلية في البلدان المستعمرة… وهذه الأخيرة جماعات فرض استتباب السيادة عليها لرأس المال أن تُنْزَلَ بها بليّةُ الجوع الذي كانت صيغ التضامن التقليدية فيها تقي منه الأفراد وقايةً تامّة.
سعى النظام الجديد في تدمير هذا كلّه وأنشأ عوضاً عنه قوّة العمل «الحرّة» (أي المجرّدة من كلّ حماية والمعرّضة للموت إذا لم تَعْرِضْ نفسها للبيع وتَجِدْ من يشتريها) وسعى، في المساق نفسه، إلى نشر منطق السوق إلى كلّ تبادلٍ لخدمةٍ أو لسلعةٍ يحصُل في المجتمع.
وأما أهمّ ما أثمره هذا التدمير فلا تدلّ عليه بالدقّة المتوخّاة ـ إذا نحن أحْسَنّا قراءةَ بولانيي ـ تسمية الاقتصاد الرأسمالي أو تسمية النظام الليبرالي. وذاك أن ما حصل كان اختراعاً للاقتصاد من أصله باعتباره قطاعاً لإنتاج معاش البشر قائماً برأسه أي مستقلّاً عن المجتمع وإملاءاته المختلفة وخاضعاً لقوانينه الخاصة به ولقواعد عمله ومتّجهاً إلى إبطال ما قد يعترض هيمنته على المجتمع بوجوه نشاطه كلّها ومؤسّساته وبنى العلاقات فيه.
وذاك أن ما يتبدّى من ترسّم بولانيي لتاريخ الرأسمالية هو أن الاقتصاد لا يعدو أن يكون صنيعةً للنظام الرأسمالي لم يكن لها وجود قبل استتباب الأمر لهذا الأخير. الاقتصاد: لا بصفته فرعاً من معرفة المجتمعات البشرية بنفسها وحسب بل بصفته نظاماً مادياً مستقلاً أيضاً يملي استقلالُه تكريسَ فرعٍ خاصّ به من فروع المعارف.
يشير بولانيي إلى أن أرسطو، وهو الموسوعي الذي رأى فيه فلاسفة الإسلام معلّمهم «الأوّل» في كل باب، قد أدرج الكلام في الاقتصاد، لا في تأليف من تآليفه على حدةٍ، بل في كتاب «السياسة». وهو قد ميّز في كلامه على الاقتصاد، في حَدْسٍ يراه بولانيي عبقرياً، بين «تدبير المنزل» أي تحصيل المعاش (وهذا هو معنى اللفظ اليوناني الدالّ على «الاقتصاد») وبين كسب المال أو إنماء الثروة الذي هو شيءٌ آخر.
لم يبلُغ استقلالُ الاقتصاد، بهذا المعنى الثاني، مداه إلا في النظام الراسمالي. حتى أن بولانيي يرى أن آدم سميث الذي يُنْسَب إليه تأسيسُ علم الاقتصاد السياسي الحديث لم يكن قد بلغ الغاية من هذا التأسيس. فهو لم يتوصّل، في زمانه، أي في أواخر القرن الثامن عشر، إلى إبراز الانفصال المنشود لمنطق رأس المال عن المجتمع بمؤسساته وبناه الموجَّهة إلى حماية الجماعات والأفراد. وأما الذي بلغ هذه الغاية، بعد كتاب سميث بعقود قليلة، فهو ريكاردو الذي يلاحظ بولانيي ما بينه وبين نظرية ماركس من قُرْبى وثيقة. ولا بدّ ههنا من الإشارة إلى أن بولانيي الذي يُسَخّف التصوّرَ الاقتصادي للطبقة ولصراع الطبقات (وكذلك حصرَ صيغ الصراع الاجتماعي في هذا الأخير) ينحو نحو تبرئة ماركس من هذا كلّه. ولكن ماركس الذي يبرّئه ليس ماركس الريكاردي أو ماركس الأعمال المتأخرة، أي «رأس المال» على التخصيص. بل هو ماركس الشاب المتفلسف، الحَفِيّ بالمجتمع والإنسان بسائر أبعادهما. معنى هذا أن بولانيي (الذي كان اشتراكياً ولم يكن ماركسياً) يتّخذ لتقويم النظرية الماركسية مقياساً معاكساً كلّياً لذاك الذي اعتمده لويس ألتوسير وتلاميذه بعد كتاب بولانيي بعقدين من الزمن.
ما يعنينا من هذا كلّه هنا هو أن الاقتصاد، علماً وموضوعاً، إنما هو ـ في ما رآه هذا المؤلف ـ حصيلةُ تجريدٍ مهولٍ أجراه نظامٌ مؤرَّخُ الميلاد في الزمان ومعروفٌ مكانُ ولادته أيضاً وإن يكن لم يَبْقَ بمنجاةٍ من أفاعيله صقعٌ من أصقاع الأرض. فبأيّ منطقٍ يراد للاقتصاد أن يكون المحرّك الأوّل للتاريخ إن لم يكن له وجود مستقلّ في التاريخ قبل هذا العهد القريب؟ وبأيّ منطقٍ يراد له أن يكون ذا فاعلية منفصلة عن فاعلية سواه من مُقَوّمات الوجود الاجتماعي حيث بقي متّحداً، في الواقع، وهذه العناصر أي في كثيرٍ من مجتمعات الأرض؟ أعلم أن ملجأ «اللاشعور» الفرويدي (وقد وجده ألتوسير، مثلاً، في متناوله) يبقى متاحاً لمن احتاج إليه. فيُقال أن الاقتصاد كان يفعل فِعْلَه الحاسم من غير أن يكون ماثلاً، بما هو فاعلٌ مستقل، في شعور الخاضعين لفعله ذاك. ولكن وجاهةَ هذا الكلام تبقى محتاجة إلى إثبات. يبقى الآخذون به محتاجين إلى ما يثبت أنه ليس مجرّد مهربٍ من الحَرَج يفتعلونَه.
فإذا نحن اسْتَجَبْنا لما في كتاب بولانيي من دعوةٍ إلى تَرْكِ عادةٍ فكرية رسّخها فينا قرن ونيّف من سيادة النظام الرأسمالي الغربي وسيادة الرؤيا الموهمة بأبدية تلك السيادة… وإذا نحن لبّينا الدعوة إلى الخروج من سيادة الماركسية أيضاً بما هي نظام فكري مأسور في النطاق الذي فرضه نقده للاقتصاد الرأسمالي الغربي أيضاً… أمكن أن نباشر ببصيرةٍ جديدة نظرَنا في الكلّ الاجتماعي الذي نحن فيه غير مندهشين من فاعليةِ عواملَ تبدو غالبةً عليه لا تنتمي إلى الاقتصاد: من قبيل الرغبة في تحصيل الحرية وفي تحصيل الكرامة أي الاعتراف الاجتماعي ومن قبيل استنفار الدين أيضاً ومعه (أو ضدّه) سائرُ مقوّمات الثقافة الأوّلية من نُظُمِ قرابةٍ وقِيَمٍ أخرى…
لا ننطلق إذن من تلقائية التمييز بين البنيتين المشهورتين أيّاً يكن المجتمع. بل ننطلق من تنوّع المجتمعات ومن تنوّع علاقاتها بالرأسمالية. ننظر في المجتمع بما هو كلٌّ مبدئيّ مدركين أن ما نفرِده من مقوّماته قد يكون أصبح ممتّعاً بقسطٍ من الاستقلال الفعلي يجب التوصل إلى تعيينه وقد لا يكون سوى ثمرة عقلية لما نجريه من عمل التحليل. ونتعلّم أن الحالين (أي حالَ معاينة التميّز وحالَ افتراض التمييز) لا تستويان وأن علينا أن نقوّم فاعلية كلّ فاعلٍ بحسب ما تبيّنها لنا المعاينة لا بحسب ما تسرّب إلى عقولنا من مسبقات. لا نفعل هذا إزراءً بالاقتصاد (الذي تتعلّق به حياةُ البشر، في نهاية المطاف) بل حفاوةً واقعية بالتكاوين الحسّية وبأنظمة الأفكار والقِيَم التي قد لا يكون الاقتصادُ غيرَ ركنٍ من أركان تشكيلها يشيل الكلّ الاجتماعي بمكانته أو يحطّ.
سبق القول أن هذا كلامٌ ملقىً على عواهنه. هو ملقىً بين يَدَيْ من يرغب في تدبّره أو تدبّر موضوعه.
كاتب لبناني

أحمد بيضون

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s