لا يَسُوغ لمستعرض الأعمال التي نشرها بول فين، المؤرّخ الفرنسي البارز، في عشراتٍ من السنين أثمرت لائحة مؤلّفات معتبرة، أن ينسب إليه جفافاً في الموضوعات المختارة للبحث أو في أسلوب تناولها أو في تصوّره لعمل التأريخ عموماً. بل إن الرجل سبق أن خرج شيئاً ما من نطاق اختصاص كان يجنح به إلى الصرامة ليكرّس كتابين كبيرين لاثنين من أصدقائه الكبار أوّلهما الشاعر رينيه شار الذي كان يكبره سنّاً بكثير وقد سعى فين إلى لقائه مدفوعاً بالإعجاب بشعره ثم انتظمت علاقتهما حين أصبحا مقيمين في نوع من العزلة الواحدة في واحدةٍ من نواحي الجنوب الفرنسي. وأما الثاني فليس إلا ميشيل فوكو الذي كان يكبره بسنواتٍ قليلة فسبقه إلى مدرسة المعلّمين العليا في باريس ثم زامله فيها وعاد فأصبح زميلاً له بعد سنين كثيرة في الكوليج دو فرانس حين التحق به فين أستاذاً في سنة 1976.
ليس متّهماً بالجفاف أو بالجفاء في المقاربة والتناول من له هذا الإحساس بشعر شار الذي ينشئ عوالم بلمحات بصر أو بأعمال فوكو بما اتّسمت به من تغريب ومن درامية في العلاقة بين أطر الاجتماع المعتادة وأصولها أو بينها وبين سوابق لها موغلةٍ في القدم. وحتى في تناوله للتاريخ الروماني، وهو ميدان تخصّصه الأثير، لم يجتنب فين المسالك المنحرفة عن الجادّات العريضة فاهتمّ بالشعر الإيروسي اهتمامه بالدين وبالحكمة في عالم الرومان.
مع ذلك، لا يسع قارئ الكتاب الأخير الذي أصدره فين مع بلوغه الرابعة والثمانين هذه السنة وضمّنه معالم من سيرته إلا أن يذهل وهو يعاين البشري الذي كان مختبئاً عن الأنظار خلف ألقابه وكتبه ومنجزاته. ولسببٍ يبقى غير جليّ اختار فين عنواناً لهذا الكتاب «وفي الحياة الأبدية لن أشعر بالضجر». لعلّه كان يعلم كم هو بعيدٌ عن إملال القارئ الذي له بعض معرفةٍ بمؤلِّفه هذا الكتابُ المضطرب بنبض متباين الشدّة والسرعة لحياة طويلة متشعّبة السبل، متعدّدة المسارح والطبقات. وفي حسباننا أن أمثل الطرق إلى الشعور بما للكتاب من أهمّية مقابلته بما للقارئ من خبرةٍ، مهما تكن محدودةً، بأعمال مؤلّفه وبالصورة التي كانت متحصّلة لهذا المؤرّخ من تلك الخبرة.
والحال أن فين لا يهمل، في كتابه الأخير هذا نشاطه المهنيّ أو العلمي. فهو يحدّثنا (بشيء من الخفّة) عن كيفية وقوعه في غرام اللقى الأثرية الرومانية والنقوش العائدة إلى حضارة الرومان. يذكر لنا، مثلاً، عثوره على كسرة من خابية رومانية بظاهر قريته وهو في نحو الثامنة من عمره. ويذكر استيلاءه، بعيد ذلك، على نقش روماني أيضاً من موقع مهجور لم يكن يعلم أن له مالكاً عاد فاستردّه. ويذكر جولاته في إيطاليا لمعاينة النقوش الرومانية وبداياته المتعثّرة في الحفريات في حقل تونسي حيث اكتشف المشرف على الحفر أن فين كان يتجه بحفرته أوّل الأمر «نحو البحر» ثم راح يعمّقها متّجها بها نحو «مركز الأرض»!.
بدت في سلوك الصبي إذن أمارات باكرة جدّاً للشغف الذي سيلازمه بالتاريخ الروماني. وهو يروي لنا كيف اختار لاحقاً موضوعاً لرسالة الدكتوراه التي أعدّها في هذا الميدان وقد كرّسها لنوعٍ من العطاء أو التبرّع الإلزامي الذي كان يقدّمه الأعيان الرومان للجماعة. وقد نشر هذا البحث تحت عنوان «الخبز والسيرك» في كتاب أصبح مَعْلماً بين الأعمال المكرّسة لتاريخ تلك الحضارة وفي ميدان التاريخ الاجتماعي، على التعميم، في عصرنا هذا. يروي فين أيضاً كيف أن نصّاً كان يفترض أن يكون مقدّمة منهجية لبحثه ذاك تضخّم واستقلّ براسه وأثمر كتاباً مرموقاً آخر هو الموسوم «كيف يُكتب التاريخ».
يطلعنا فين أيضاً على جوانب من سيرته التعليمية بعد أن كان قد أوجز لنا سيرته الدراسية. فنعلم، مثلاً، أن ريمون آرون كان وراء ترشيحه للأستاذية في الكولّيج دو فرانس وأنه غضب عليه وناوأه بعد انتخابه لأنه لم يذكر فضله عليه ولا ذكر اسمه أصلاً في درسه الافتتاحي.
تلك وغيرها معطياتٌ ترسم مسار الشخص المعروض للعيان أصلاً عبر أبحاثه وحياته العامّة الذي هو المؤرّخ بول فين. ولكن قيمة هذه السيرة التي نشرها وهو في هذا الهزيع الأخير من العمر تتمثّل في إدراجها هذه المعطيات بإزاء صفّ آخر من المعطيات هو ذاك الذي يصف حياة الإنسان الخاص مخرجاً الشخص الحيّ من الدارس المكبّ على النقوش الرومانية وعلى التراث اللاتيني. نواكبه في فصول متباعدةٍ شيئاً ما من سيرته طفلاً يصف نفسه بقبح الخلقة لنموّ مرضي في عظْمة خدٍّ من خدّيه ويكبر في كنف أبٍ يتعاطى السمسرة ويمالئ الاحتلال الألماني لفرنسا سنة 1940… ثم نعاينه عضواً متردّداً في انتمائه إلى الحزب الشيوعي تتنازعه دواعٍ متعارضة بينها الرغبة الغيرية في الانتماء إلى معسكر العدل والتقدّم وبينها الشعور بالقيود الرازحة على سياسة الحزب من جرّاء تبعيته الأممية وتقاليد عمله الداخلي… وهذه عضوية سيضع لها حدّاً اجتياح الدبّابات السوفياتية بودابست سنة 1956 وسيخلفها امتحان الموقف من الثورة الجزائرية وكيفية مساندتها من جانب مثقّف فرنسي كان قد عرف الجزائر منقّباً عن الآثار الرومانية فيها وكان إعجابه بديغول لا يني يكبر.
هذا وتحضر النساء بقوّةٍ في هذا الجانب الشخصيّ من سيرة فين وتحضر معهنّ أشدّ المسارات درامية في حياة صاحبها. فهو يقول أن قبح طلعته لم يحل يوماً دون إقباله على التحبّب إلى النساء. وهو يذكر زوجته الأولى سيمون سولوديلوف وقد افترقا بعد سنواتٍ أولى من الصحبة أفضت إلى بضع سنواتٍ من الزواج. وهو يتبسّط في ذكر زوجته الثانية: الطبيبة أستيل. فمعها يغادر حالاً من السعادة الغامرة ليوغل في شقاء تسبب به احتراف ولدها الشاب من زواجٍ سابق، وكان قريباً إلى فين عظيم الثقة به، البغاء المثلي في باريس. وهو ما انتهى إلى إصابته بالإيدز ثم إلى إقدام والدته، على محاولات انتحارٍ تكرّرت قبل أن تعمد إلى مساعدته على الانتحار حين دخل مرحلة النزع… وهذه مساعدة سنعلم أن أستيل قدّمتها أيضاً إلى والدتها المحتضرة.
أفضت المأساة التي مثّلها ابن أستيل إلى جعل الزواج الذي جمع بول وهذه الأخيرة واحداً وثلاثين سنةً زواجاً «أبيض» لثمانية وعشرين عاماً من أصل هذه المدّة. وهو ما أدّى بفين إلى الوقوع في غرام فرانسواز صديقة زوجته المفضّلة. مع هذا الغرام بدأت علاقة ثلاثية قبلتها استيل التي كانت هي وفين مصرّين على استبقاء زواجهما الأبيض. دامت هذه الحال أعواماً كثيرة أمضت أستيل الجانب الأعظم منها مريضة إلى أن رحلت قبل بضع سنوات. وفي هذه المدّة فقد فين وحيده الشاب داميان منتحراً أيضاً من جرّاء اكتئابٍ استولى عليه وهو العشريني المبرّز في وسطه المهني الأميركي… إلخ.، إلخ.
يجرّ بول فين خلفه هذه الحوادث وقد أصبح اليوم في وسط ثمانيناته. يجرّها ويجرّ معها كتبه التي فرضت له في ميدان تخصصه مكانة عالمية. وإذا كان لسيرته هذه من أهمّية فمنشأها كشف هذا التزامن: تزامن أعمالٍ اقتضت الإكباب المديد على موادّ موغلة في القدم ومآسٍ تعاقبت وطال حضور بعضها في حياة هذا المؤلّف. وفي «كيف يُكتب التاريخ»، كان فين قد جعل تصوّر «الحبكة» في موضع القلب من تنظيره للمعرفة التاريخية. فكم من حبكة نسج فين لتستوي أقنعةً لفصول توالت من دراما حياته: لمرض زوجته، مثلاً، أو لانتحار ابنه؟
كاتب لبناني
أحمد بيضون