كتاب التاريخ أم فكر التاريخ؟

أحمد بيضون

في الدرس الذي بات استخلاصه واجباً من الإخفاق المتمادي للجان اللبنانية المتعاقبة على معالجة مادّة التاريخ المدرسي ووضع كتابها الواحد المنتظر (وهو الإخفاق الذي جعلتُه مداراً لعجالتي الماضية) رأيتُ أن على النظر أن يتجه إلى البحث عن السبب الأعمق (وهو لا يستبعد وجود أسباب أقرب إلى الظرف) في تصوّر بعينه للتاريخ. يعمد هذا التصوّر إلى إخراجٍ للزمن أو لفاعليّته من التاريخ بما هو البعد الذي تتعاقب فيه الحوادث فيكون فيها قبلٌ وبعدٌ وتتغيّر فيه الأشياء والقيم والمواقف والأحكام، إلخ. يجري إخراج الزمن ليُعمد إلى رصف الوقائع أو الحوادث جنباً إلى جنبٍ في بعد وحيد ذي صفة مكانية. فإذا كان لقيمة الواقعة أو الحادثة مقياس فليس هو قربها أو بعدها في الزمن بل أهليتها لتكرار البنية المعنوية لحادثةٍ أو واقعةٍ تستوي، بما هي أصل، مقياساً للقيمة. هذا التعبّد للأصل والاشتهاء لتكراره ينحوان إلى تجميد الجماعة في صورةٍ خالدة يمليها الأصل وإلى جبه الجديد الذي يأتي به الزمن حكماً بالنكران أو نعته بالانحراف عن الجادّة التي يرسمها رسماً مزعوم الثبات إلهام الأصل وصورة الجماعة.
في هذا النكران زيفٌ مثابر… إذ الواقع أن الجماعة تتغيّر في التاريخ، بنىً ومواقف وقيماً، وأن تصوّرها للأصل ولفحواه يتغيّر أيضاً فلا يستقيم اعتباره مقياساً ثابتاً للقيمة أيضاً. ولكن نكران التغيير أو رفض الاعتراف به ديدناً للتاريخ يبقى دأباً ثابتاً ومعه زعم القياس على أصلٍ ثابت. وذاك لأن هذا النكران أو الرفض هو درع الجماعة يحميها من التفكك والاندثار إذ يرتجل لها باستمرار هويّةً واحدة مستمرّة.
ما الصلة بين نكران الزمن أو نبذ التغييرِ والجديدِ هذا وبين استعصاء الإفضاء إلى وفاقٍ بين أطرافٍ لبنانيين على روايةٍ موحّدة لتاريخهم المشترك؟ يحول افتراض الهوية الثابتة والمعنى الواحد لتاريخ الجماعة إلى امتناع حركة المؤرّخ الملتزم برؤيا جماعته التاريخية بين حوادث ذلك التاريخ أو إلى التقييد الشديد لتلك الحركة، في الأقلّ. فهذا المؤرّخ يصبح مسوقاً، بوعيٍ منه أو بلا وعيٍ، إلى شدّ حوادث الماضي نحو ما تتخيله الجماعة اليوم على أنه صورتها وتبتغي قسر الماضي على الشهادة بصحّته وتعزيز الملامح المرادة له. وقد يستبقي المؤرّخ في ماضي الجماعة حالاتِ «خيانةٍ» لهذه الصورة. يستبقيها مرغماً ويريد لها أن تبقى محصورة، ضيّقةَ النطاق بكلّ معنىً ممكن. وهو يجالد «الأغيارَ» أو «الخصوم»، بما أوتي من حذق وهمّة، للحؤول دون طغيان «الخيانة» أو استشراء الشذوذ بحيث يزعزع القاعدة أو يطيحها. عليه يُفهم أن يعصي على لبنانيين معاصرين بلوغُ التفاهم المروم على معنى مواجهةٍ قديمة أو حديثة بين جماعتين لبنانيتين بعينهما أو حلفين متعارضين عقدتاهما أو أصلين مفترضين لهما، إلخ. فإن الناطق الحالي باسم الجماعة أو زجّالَها المفوّه سيستعيد محاولتها وضعَ القيمة في جانبها أو في جانب حليفها مستوحياً في ذلك ما تراه الجماعة صورةً راهنة لها يستدعى التاريخ لتعزيزها. وهو ما لا يسع الجماعة الأخرى أن تنصاع له لمعارضته سعيَها المناظر لهذا السعي… فيتعذّر الوفاق. هذا التعذّر ما كان ليحصل لو حصل الاستعداد للاعتراف بواقع الحال التاريخية: وهو أن فحوى الأصل نفسه أو دلالتَه (بل ورواية وقائعه نفسها، أحياناً) كانت تتغيّر كلّها أو جلّها في مدى تاريخ الجماعة… وأن هذا التاريخ إنما هو، فوق كلّ شيء، تاريخ التحوّلات في تصوّر الجماعة لنفسها أي تاريخ إعادات الابتكار لهويّتها ومعها توالي الأسانيد المتعارضة لثبات هذه الهوية.
فلو كان في مستطاع المؤرّخ «الملتزم» أن يتبيّن حركة الهويّة هذه في التاريخ وأن يرصد وقائعها من مرحلة إلى مرحلة لما وجد نفسه محمولاً، في مواجهة الواقع التاريخي، على تعيين حالة واحدة للقيمة (بما فيها قيمته الشخصية): ما لم يكن، في واقع الأمور، إلا حالةً من حالاتٍ للجماعة متغايرةٍ في ما بينها حتى احتمال التناقض. قبول التغاير هذا في تاريخ الجماعة، بما فيه تغاير الوجهات المنسوبة إلى الواقعة- لأصل، وهو قبولٌ يعادل الانفكاك الرمزي من أَسْر الجماعة دون حاجةٍ إلى الوقوع في خيانتها ولا إلى الخروج العملي منها، إنما هو شرطٌ لتحرير حركة المؤرّخ في التاريخ كلّه وشرطُ الوفاق على التاريخ إن لم يكن بين الجماعات فبين المؤرخين لها.
على هذا القبول بالتغاير (وعلى حقيقة حصوله) ضربتُ، في الندوة التي أشرتُ إليها في عجالتي الماضية، مثال الحرب اللبنانية. قلت أن الاعتراف بأن موارنة اليوم وسنّته وشيعته ودروزه، إلخ، أصبحت كلّ جماعة منهم، بتمثيلها السياسي الغالب، في موقع مخالف جدّاً لذاك الذي كانت فيه أثناء الحرب الماضية: مخالف له في «القضايا» وفي الأحلاف وفي المسلك… فما الذي يلزم المؤرّخ، لو ساغَ له الاعترافُ بهذا التغيير والصُدوعُ بمفاعيله، أن يُلزم الجماعة في صعيد القيمة بموقعٍ غادرَته وبدت مسلّمة بالخلل فيه، في صعيد الواقع؟ ولكن المؤرّخ يجنح عن هذا الاعتراف حين يلحظ ورود المطالبة به من جانب من يراه منافساً أو خصماً ويلحظ رغبة هذا الغير في جني فوائد من هذا الاعتراف للجماعة- الغير. هذا سبب لرفض الاعتراف بالتغيير وبالزمن. ولكن السبب الأعمق يبقى دأب الجماعة، في سعيها المتجدد للبقاء، إلى تصوير تاريخها (بمعناه كلّه إن لم يكن بوقائعه كلّها) على أنه حالةُ وفاءٍ راسخ لهويّةٍ عصيّة على التقادم عَصاوتَها على التجديد.
كاتب لبناني

أحمد بيضون

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s