عدالة لبنان الانتقالية: الخصم والحَكَم

أحمد بيضون

بخلاف الحالات التي انطلقت منها مسيرة العدالة الانتقالية في العالم، وهي حالات الدول الخارجة من الكتلة الشيوعية لتعتمد أنظمةً جديدة، وجد المركز الدولي المختص بهذا الشأن في لبنان خلافاً مستمرّاً على تشخيص النزاع الذي جرى ووجد حالةً من الشكّ في أن يكون الخروج من هذا النزاع قد تمّ فعلاً. فعلى مستوىً أوّل بقي التنازع جارياً بين صفتين عامّتين للحرب ترى الأولى فيها حرباً أهليةً مدارها النظام السياسي وموازينه وخياراته السياسية وترى الثانية فيها حرباً أو حروباً بين قوىً خارجية، إقليمية ودولية، خاضها اللبنانيون أو اشتركوا في خوضها بالوكالة عن أصحاب المصلحة. وعلى مستوىً أدنى من هذا، انطوت الحرب على بؤر ملتهبة يرفض الخائضون فيها أن يعودوا إلى حقيقة أدوارهم فيها وأن يتمعّنوا في دلالاتها. من ذلك، مثلاً، ما سُمّي «حرب المخيّمات» في وسط الثمانينات من القرن الماضي ومنه أيضاً الحروب الداخلية القبيحة التي شهدتها هذه أو تلك من الطوائف.
على أن الأدهى إنما هو استيلاء قوى الحرب على الدولة، بعد اتّفاق الطائف، واستصدارها قانونَ عفوٍ ينجو بها من المحاسبة. والحال أن هذه القوى هي من ينبغي مثوله في قفص الاتّهام حين تأخذ العدالة الانتقاالية مجراها. ويقتضي ذلك أن تكون قد نشأت دولة متماسكة المؤسسات يوثَق بحياد القضاء المنتمي إليها. هذا فيما نقع في لبنان على دولةٍ لم تكن طرفاً في النزاع بقدر ما أصبحت أطرافاً مصادرةً أو متعدّى عليها من جانب أطرافه. هذه الدولة خرجت من الحرب مستضعفة غير مستقلّة بسلطة القانون عن أطراف النزاع ولا عن سلطة الوصي السوري الذي استوى، لخمسة عشر عاماً لاحقة، قيّماً على سياسة الموازين بين تلك الأطراف بما في ذلك الموازين بينه وبين أوصياء آخرين على بعضها. وضع سلطة الدولة هذا لم يزدد إلا سوءاً بعد سحب الوصي قوّاته وجهاز عمله من الداخل اللبناني في سنة 2005 إذ ظهر تفسّخ المجتمع السياسي اللبناني وعجزه عن استيلاد قوّة داخلية فاعلة للتحكيم بين أطرافه.
في مناخ الأزمة المستعصية هذه، بدا أن على التيّار العامل لوضع العدالة الانتقالية على سكّة الفعل أن يحصر جهوده في نطاقٍ بالغ الضيق بالقياس إلى التصوّر المبدئي للمهمة وإن يكن قيّماً في حدّ ذاته. كان وضع قوى الحرب يدها على الدولة قد جعل مجرّد المطالبة بالتحقيق لتحديد مصائر المفقودين من الضحايا يرتطم طويلاً بالقول أن فتح هذا النوع من الملفّات يرتدّ بالبلاد إلى مناخ الحرب. وهذه مطالبة كان أهالي المفقودين ونفرٌ من مؤازريهم قد باشروها في سنوات الحرب ثم واصلوها بعد ذلك بلا كلل.
وجد مركز العدالة الانتقالية نفسه يجعل من قضية المفقودين هؤلاء وجلاءِ مصيرهم محوراً لعمله… في ندوتين عقدهما المركز هذه السنة كان بيّناً أن نطاق العدالة المفترض أوسع بكثير من هذه القضية على أهمّيتها. جرى التشديد على أن المسار الذي يبدأ بطلب «الحقيقة» المتعلّقة بالضحايا يفترض أن يفضي إلى إجراء العدالة الجزائية في حقّ المرتكبين وإلى جبر الضرر الواقع على الضحايا بالتعويض عليهم أو على ذويهم. كان بيّناً أيضاً ان هذا النوع من العدالة ينتهي إلى اقتضاء إصلاح مؤسسي، متعدّد الوجوه، يراد منه درء التكرار الوارد للنزاع.
لم تُظهر المناقشات سبلاً مفتوحة أو ميسورة الفتح إلى هذه الغايات. فاقتصر السعي على ما هو قريب المنال. شكّل المركز ما سُمّي «ائتلافاً» لهيئات لها سابق إسهام في هذا النوع من المطالبة. وهذا إنجاز كان المركز أحسن من يتولاّه بحكم «خارجيته» وما تحت يده من وسائل وخبرات. هذا «الائتلاف» استوى، في الواقع، منتدىً لمناقشةٍ مشتركة للمهمّات التي يضطلع به الأطراف كلّ من جهته. وبالنظر إلى ما لقضية المفقودين من سابقة في السعي والمتابعة، استوت هذه القضية تلقائياً همّاً واضح التصدّر، وإن لم يكن وحيداً، للـ»ائتلاف». وقد سُجّل التوصّل إلى محطّة فيها هي تسلّم ملفّ التحقيق الذي كانت قد أجرته حكومة سليم الحص في حدود سنة 2000. وهذا أمرٌ تنشئ جهود المركز من خلال «الائتلاف» وسطاً تضامنياً حوله وإن يكن الإنجاز نفسه ثمرة جهود بذلها أهالي المفقودين والحقوقيون الناشطون معهم.
ما مصير العدالة الجزائية من بعد وجبر الضرر؟ وما مصير الإصلاح المؤسسي؟ توجّه «الائتلاف» بـ»توصيات» تتعلّق بهذه القضايا إلى «الدولة». وهذا توجّهٌ موافق للمبدإ ولكن حالَ الدولة وموقعها في هذا المضمار هما ما أشرنا إليه. وفي جهة المطالبين، تبدو هذه القضايا فائضة عن طاقة الجماعات الصغيرة والأفراد من أعضاء «الائتلاف». وهي فائضة أيضاً عن الحضور اللبناني الخجول لمركز العدالة الانتقالية. ففي مواجهة هؤلاء لا تزال تقف قوى الحرب العاتية وهي قابضة على مفاصل المجتمع وعلى الدولة وعلى العدالة. وهي تبدو متوجّهة، لا نحو إجراء العدالة بشأن الحرب الماضية، بل نحو حشد القوى وتوفير المنطلقات لحربٍ (أو حروبٍ) جديدة.
كاتب لبناني

أحمد بيضون

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s