أحمد بيضون
لا نملك ههنا أن نجاوز الإشارة السريعة إلى أنواع الأخطاء التي يقع فيها مرتجلو المصطلحات ثم تشيع وتذيع. فالمصطلح الجديد، سواء أكان اسماً لتصوّر فلسفي أم اسماً لجهازٍ جديد أم غير ذلك يدخل اللغة إمّا بالوضع وإمّا بالتعريب. ومعنى الوضع أن يوجد من العربية نفسها مفردةٌ أو مركّبٌ يعتمد مقابلاً للمصطلح المراد نقله. ومعنى التعريب أن يعتمد المصطلح الأجنبي بصورته الصوتية نفسها بعد تطويع هذه الصورة بحيث تراعي قواعد الصرف العربي نطقاً وتؤدّيها حروف العربية كتابةً.
ويفترض في الواضع أن يكون ملمّاً بالذخيرة الضخمة التي تركها القدماء لنا في حقولٍ كثيرة وأكثرها مثبتٌ في كبريات المعاجم القديمة من لغوية وفنية. ويفترض فيه أن يكون عارفاً أيضاً بما قد يكون المُحْدَثون اقترحوه حتى لا يزيد طين التفتّت بلّةً من غير داعٍ يسوّغ له ذلك. ويفترض فيه أيضاً أن يكون عارفاً أصول الاشتقاق والنحت العربية ومعاني الوزانات الصرفية فلا يضع اسم مفعولٍ، مثلاً، لمصطلحٍ له معنى الفاعل.
هذه المعارف نفسها تُفْترض في المعرّب الذي لا يجوز له الجنوح إلى التعريب أصلاً إلا بعد التثبّت من تعذّر الوضع المناسب للحاجة. فمع أن دخول الألفاظ الأجنبية حَرَمَ العربيةِ أمرٌ قديمٌ قِدَمَ اللغة، محقّقٌ في حالة القرآن نفسه، وأن هذه الرحابة لا تعدّ مأخذاً، فإن الاستكثار من التعريب بلا داعٍ وجيه ينتهي إلى إخلال جماليّ غير محمود.
بقي أن نضرب مثلاً أو اثنين على ما رمت إليه هذه الملاحظات. ظهر الهاتف الجوّال المسمّى «سلّولر»… ففهم صحافيّ ما أن الأمر يتعلّق بالـ»سلّ» أي الخَليّة. وما كان منه إلا أن قال «خِلْيَويّ»، مفترضاً أن له أن ينسب إلى «فَعيلة» بـ»فِعْيَليّ». وحين وصل اللغوي، الذي لم يكن قد استشير، ليقول أن الصواب «خَلَويّ» على «فَعَليّ»، كان الأوان قد فاتَ تقريباً. والحالُ أن اللغوي كان حقّه وواجبه أن يكون المبادر إلى الفتوى وكان يجب أن يكون بتصرّفه من وسائل النشر والإعلان ما يجعل صوتَه الأعلى. ولكن هيهات!
هذا في الوضع. مثل آخر يدخل في باب التعريب. قبل سنين، اقترح معمارٌ عربي ذائع الشهرة على استحقاق، في بعض مؤلّفاته، أن يُنْقل المصطلح الانكليزي-الفرنسي «أوبتيمال» بلفظه إلى العربية فنقول «أُبتِماليّ». وفي مراجعة للكتاب الذي حمل هذا المقترح وغيره من صنفه، لاحظتُ أن «أبتمالي» تشكو علّتين، على الأقلّ: الأولى أنها لا تتوقّف عند مقابلٍ عربي لا يبدو فيه عيب، وهو «أمْثَل». فهذه صفة تفيد معنى المقابل الأجنبي بالضبط. ولنا أن نأخذ من الصفة اسماً أو مصدراً صناعياً هو «أَمْثَلِيّة» مقابلاً لـ»أوبتيمالتي». فإذا سلّمنا جدلاً بأن علينا الجنوح إلى التعريب، عِوَضَ الوضع، وجب الالتفات إلى العلّة الثانية في «أُبتِمالي» وهي شَفْع اللاحقة الأجنبية «أَلْ» التي تفيد النسبة بياء النسبة العربية، فتصبح الصفة منسوبةً مرّتين! وهو إخلال بالأناقة وهدْرٌ لا يسوّغه غير السهو عن أصول التصريف في اللغتين معاً. فكان الصواب، إن أصررنا ـ مرّةً أخرى ـ على التعريب، أن يقال «أَبْتَميّ» وأَبْتَميّة» لا «أبتماليّ» و»أبتماليّة».
ولكن، لا حوْلَ…
وقد نلتقي من يدعونا إلى التسامح حيال هذا النوع (أو هذه الأنواع) من الأخطاء وإلى إلزام اللغة بتقبّلها على سبيل التيسير. ولا غبار على مبدأ التيسير. ولكن ما يبدو تيسيراً لأوّل وهلة قد يتكشّف، عند المفترق الأوّل، عن تعسير يضاف إلى قواعد اللغة. فإن علينا أن نلتفت دائماً إلى متعلّمي اللغة وقواعدها فلا نزيد همومهم ثقلاً ونحن نحسب أننا نجاري العامّة بالسكوت عن خطأ يشيع ويذيع. وذاك أن الاستكثار ممّا يشذّ عن قاعدة من قواعد اللغة إنما يزيد تعلّم اللغة عسراً ليس معه يسر. لا مناص إذن من استدعاء السلطة اللغوية لا للتنكيل بمستخدمي اللغة بل للتخفيف من العبْء على متعلّميها. وما هؤلاء سوى أولئك أو بعضهم.
وذاك أن استلهام العامّيات وإحسان الاستقبال للوافد من الحاجات يجب أن يكونا في رأس ما تعتمده تلك السلطة ـ إذا وُجدت! ـ من سبلٍ إلى التيسير. وهما، في كلّ حال، شرطان لفاعليّتها إذ هي، بخلاف سلطات أخرى نعرفها، لا تملك وسيلةً للفعل غير الدعوة والنصيحة. وهذا من حسن حظّها وحظّ اللغة إذا هي أرادت أن تحصل من الناس على قدر من الإصغاء لا على الإعراض. فإن الإعراض يبقى في أيديهم إذا هم آنسوا من هذه السلطة المقتصر سلاحها على الإغراء رجعيةً وميلاً إلى التشنّج وإلى أخذ العامّة بالعنف.
كاتب لبناني