أحمد بيضون
هنا أو هناك يقع واحدنا على إشارة (إن لم يقع على مطالعة ضافية) يأخذ صاحبها على العربية عجزها عن مجاراة ما يسمّى الحضارة الحديثة أو المعاصرة، وهذه، في واقع الحال، حضارات. يقابل وجهة النظر هذه موقف آخر ينبري للدفاع عن اللغة بإبراز ثرائها الضخم بالألفاظ والطواعية المؤكّدة لبناها وتمكّنها، في ماضٍ مضى، من الاستواء مركباً لحضارة عظيمة كان بُناتها ناطقين بالضاد ومن مجاراة انفتاحهم، نظراً وترجمةً، على حضاراتٍ عظيمة أيضاً كانت قد سبقت زمانهم.
يشدّد الأوّلون على الفيض من الألفاظ غير العربية (بل ومن التراكيب والبنى الأجنبية أيضاً) ممّا يزخر به كلامنا اليومي ويبرزون كذلك ما يلقاه المترجم العربي، لا في نقل النصوص العلمية أو الفنية وحسب، بل في نقل أعمال من قبيل النثر الروائي أيضاً. ويردّ الآخرون بمدائح يخصّون بها نظام الاشتقاق العربي بما يتميّز به من كثرة الموازين واختصاص كلّ منها بفئة معنوية بحيث يتيسّر للمترجم أن يختار منها ما يناسب اللفظ أو المصطلح الأجنبي الذي يستوقفه وأن يقترح له ما يجده حسناً من الكثير الموجود أو يلجأ إلى الوضع عند الضرورة. ويضيف هؤلاء إلى الاشتقاق سبلاً أخرى من قبيل النحت، وهو الاجتزاء من لفظين لدمجهما في واحد جديد، أو تعريب الألفاظ وهو تبني اللفظ غير العربي بعد تطويعه، إذا لزم الأمر، لواحدٍ مناسب من الأوزان الصرفية. إلخ.
على أن هذين الفريقين من المجادلين يهمل كلاهما، في معظم الحالات، مسألتين حيويتين للغاية لا مسؤولية للفصحى عنهما. أولاهما مسألة غير لغوية أصلاً، بمعنى الكلمة الدقيق، هي ما نرى تسميته «مسألة أصل العالم» الذي بات الناطقون بالعربية مقيمين فيه. وأما الثانية فهي مسألة العاميّات واستوائها مراكب للتعامل الأوّل أو المباشر مع العالم المذكور وأثر ذلك على استعداد الفصحى التي يصل إليها طلب التعامل المشار إليه متأخراً في الغالب… يصل إليها بعد أن تكون استجابة العامّية (أو العامّيات) قد حصلت وفرضت نفسها واقعةً يتعذّر تجاهلها على المقاربة الفصحى للتحدّي نفسه. فالحال أن الفصحى، بما هي نظامٌ وتراث، كثيراً ما تأنف من الحلّ الذي ترتضيه وتفرضه عامّيةٌ من العامّيات لمسألة جديدة من مسائل التسمية التي تطرح على المتحدّث أو تُطرح على مؤلّفٍ أو مترجم.
وما نسمّيه مسألة «أصل العالم» ههنا إنما هو الإشكال الناجم عن سكنانا عالماً بات مستورداً من ألفه إلى يائه تقريباً. ليس علينا إلا التلفّت حولنا لنتحقق من كون الأشياء التي تحفّ بنا من كلّ جانب إنّما هي، في معظمها، أشياء وصلت إلينا من خارج نطاقنا الحضاري ووصل معها أيضاً كثير من وجوه تصرفنا بها وتفاعلنا معها. قد تكون قطعة الأثاث هذه صنعت في معمل غير بعيد عن بيتي. ولكن من أين جاء مثالها الأوّل؟ وأهمّ من هذا، في ما يعنينا هنا، أن نسأل من أين جاء اسمها. ولا يقتصر الأمر على الأشياء المصنوعة التي تتكوّن منها بيئة حياتنا. فحتى المزروعات التي نستنبتها ونعدّها من عطايا الطبيعة وفد علينا كثير منها ومعها أسماؤها من ديار بعيدة. وحتّى مؤسسات المجتمع ونظم الأفكار الجديدة نسجت على منوالاتٍ مستوردةٍ هي أيضاً. وغنيّ عن القول أن ما يحمل، في جملته، اسماً واحداً تحمل أجزاؤه أو مكوّناته أسماء أخرى وتلزم لاستعماله أو للتصرّف به أفعالٌ وعبارات قد يكون بعضها وُضع له، على التخصيص، أو اعتُمد للفئة التي ينتمي إليها في الأقلّ.
فالحال أننا أصبحنا نترجم معظم حياتنا والعالم الذي تندرج فيه هذه الحياة عن عوالم أجنبية ولغاتٍ غريبة. فبات محالاً اعتبار الترجمة أمراً استكمالياً يطرأ على دنيا تامّة الأوصاف أو هي مكتملة العناصر بمعزل عن حصوله. وأمّا منطلق هذه الواقعة الضخمة فهو أن الأشياء المستوردة تفد، في كثير من الحالات، ومعها أسماؤها بلغات المنشأ ومع الأسماء ألفاظ أخرى هي لوازم الاستعمال والتدبّر. وهو ما يمثّل تحدّياً ضخماً، بمعنى الضخامة الحرفي، للغة من يبقى إسهامهم في صنع عالمهم ضئيلاً فتبقى سلطتهم اللغوية عليه مخرّقةً هنا مهزوزةً هناك متهالكةً هنالك. تلك هي المسألة التي سميناها مسألة «اصل العالم».
وأمّا دور العامّيّات أو المحكيّات في مفاقمة المحنة التي تمثّلها للفصحى علاقتها بهذا العالم الممعن في التغير دون توقّف فهو جليّ. وذاك أوّلاً أن العامّيات متساهلة للغاية، مفتوحة الشهية للّفظ الوافد، تسرع إلى اعتماده وإن يكن مخالفاً لأدنى مطالب الفصحى وشروطها. فتقبل العامّية، في ما تقبل، أصواتاً لغوية لا وجود لها في العربية ولا تسأل عن مطاوعة اللفظ الجديد لوزن صرفي عربي يلائم معناه ومبناه ولا يقلقها أن يبدأ اللفظ بحرف صحيح ساكنٍ، مثلاً، أو أن يلتقي فيه ساكنان، إلخ. ثم إن العامّيات كثيرة ويحصل ان تأخذ واحدة منها بحلّ لمسألة من مسائل التسمية تُطْرح عليها وتأخذ الأخرى بحلّ آخر.
وأمّا الفصحى فتصل إلى ساحة الحلول متأخّرة في أكثر الأحوال. وهي تلقى، إذ تواجه ما ترسيه العامّيّات، عناءً في فرض ما تراه مناسباً لذائقتها ولأصولها على الجمهور. وكثيراً ما يخيب سعي الفصحى فتُداخل النصوصَ الموضوعة فيها ألفاظٌ وتراكيب لم تجد اللغة سبيلاً إلى نبذها فيما تُنْبذ بدائلُ فصيحة اقترحها اللغويون. ولا تكاد تحصى محتويات سلّة المهملات اللغوية من حلول أقترحها اللغوي واستبعدها الجمهور، وبعضها ممتازٌ وبعضها أمسى مادّةً لتندّر المتندّرين.
لا أمل في حلّ شامل لمشكلة العلاقة هذه بين الفصحى والعالم المعاصر ما دام أهل الفصحى لا يجدون سبيلاً إلى تحسين موقعهم من هذا العالم وتعظيم نصيبهم من إنشائه المتواصل. فما يخصّ اللغةَ نفسها من هذه المشكلة يبقى محدوداً، على أهمّيته. ولا يُبْطل هذا ضرورة السعي المعزّز لتيسير الفصحى وتوسيع قابليتها لمنافسة العامّيات أو مسايرتها في استقبال كلام العالم المتجدّد والتعبير عن حفاوتها به. وهذه مهمّة عرضنا، في أعمال قديمة، لمقتضيات القيام بأعبائها وقد تكون لنا إليها عودة.
كاتب لبناني
أحمد بيضون