أحمد بيضون
بين الأعمال الكثيرة التي تقدّمها منيرة الصلح في معرض كبير لها لا تزال تستضيفه صفير زملر غاليري في بيروت، استوقفتني مليّاً رسوم كثيرة للاجئين سوريين إلى لبنان معروضة جنباً إلى جنب في صفّ واحد على جدار واحد…
يبلغ عدد الرسوم المذكورة نحو خمسين ولكن الفنّانة قالت إنها ستواصل عملها هذا حتى يجتمع عندها آلاف من هذه الرسوم.
اختارت الصلح حاملاً لرسومها هذه أوراقاً صفراء اللون منتزعة من كرّاسةٍ من تلك التي تستخدم للمسوّدات، وقد ننزع أوراقها واحدةً تلو الأخرى بحركةٍ واحدة تجعل الورقة تنفك عن مثيلاتها من الجهة العليا من الكرّاسة. وقد نلقي هذه الأوراق المنتزعة في القمامة إذ هي ليست ممّا وجد ليُحتفظ به ولا ما يدوّن أو يُخطّ عليها يعتبر قيّماً أو نهائيّاً، في العادة، بحيث يسوغ الحرص عليه. من بين الرسوم الخمسين، ثلاثة أو أربعة استخدمت لها الفنّانة ورقاً أبيض لا يفترق في شيء عن الأصفر سوى باللون أو بغيابه. فيبدو هذا الاستثناء مقصوداً لخرق الرتابة أو يبدو غير مقصودٍ أملاه وجود الكرّاسة الصفراء في خارج المتناول، لا أكثر ولا أقلّ. هذا والداعي إلى كسر الرتابة وجيه: فإن هذه الرسوم، وإن تكن معروضة لينظر إليها وفيها واحداً واحداً، معدّة أيضاً لتشاهد عن بعد خطوات على أنها «حالةٌ» مركّبة وعملٌ واحد.
وأمّا المادّة المستخدمة في الرسم فهي الحبر الأسود وحده غالباً أو هي الفحم أو الحبر الأزرق أحياناً. ويداخل السوادَ شيء من الحبر الأحمر في حالات قليلة، فنقع عليه حيث ينتظر: أي لون للشفتين، مثلاً، أو نقع عليه حيث لا ينتظر أي عنصر في التشكيل قد يشي بجرحٍ ما، داخليّ أو خارجيّ. ولا يذهب الفكر إلى الحبر الصيني الذي لا يحول بل إلى نوع من الحبر أو الفحم يجاري الورق المستعمل في تدنّي القيمة فيبدو وكأنه فقد رونق الجدّة على عجل وأدخل نكهة تعبٍ باهتة لا إلى ملامح الوجوه وحسب بل إلى مادّتها نفسها. وذاك أننا هنا حيال وجوه تتفاوت درجة الاكتمال في بيان ملامحها فيبدو بعضها ملتحياً كثيف القسمات ويكتفي من بعضها بتخطيط ناقص لمحيط الوجه يفترض أن يشي بما تبقّى وأن يعرض بداية لتعبير ما. على أن الوجه لا يظهر وحده غالباً بل يبدو الرأس محمولاً على كتفين وجذع على منوال الصورة النصفية التي تؤخذ لبطاقة الهوية أو لجواز السفر. وتنفع الثياب في الإيحاء بأوضاعٍ لابسيها، وعلى الأخصّ منها ثياب النساء وهنّ قلّةٌ في المجموع المعروض.
هذا وقلّما نقع على خلفية ذات أهمية في التشكيل أو على شيء آخر يسعف في تعيين ملمحٍ ما من ملامح الشخصية. نقع على دفتر هنا ونقع هناك على قناني تشي بأن صاحب الوجه مضيف في خمّارةٍ أو مطعم ونقع في حالاتٍ ثالثة على ازدواج للوجه نفسه: على وجهين يسعف أحدهما الآخر في جهده لقول نفسه. ولكن نقع في كثير من هذه الرسوم على كلام كثير أو قليل يعلن شيئاً متعلّقاً بصاحب الوجه: شيئاً مهمّاً جدّاً. هذا الكلام مكتوب، على الإجمال، بالقلم الرصاص: بالمادّة الرخيصة نفسها التي خطّت بها ملامح الوجه. وهو مكتوب إلى ذلك بخطّ رديء وملقى على الصفحة بلا عناية ظاهرةٍ بالإخراج بحيث يضاعف الشعور بالاستعجال ويزيد ظاهر الصفحة كلّها إهمالاً على إهمال…
ولكنّ الكلام المقروء ههنا مهمّ جدّاً، قلّ أم كثر. بل إن الرسوم التي لا يصحبها كلامٌ البتّة تبدو عرضةً لنوع من العدوى بفحوى الكلام المرافق لوجوهٍ أخرى ماثلة على الجدار نفسه. فهذا الكلام ينشئ بيئةً تُستغرق فيها الشخصيّات. هو لا يبطل ما لكلّ من هذه الشخصيات من فرادة. هو يقول هذه الفرادة، على وجه التحديد، فيحيلها إلى حالةٍ عامّة. نقرأ على إحدى الصفحات: «أبو غابي» ونقرأ: «من ماليزيا على تركيا». ونقرأ على أخرى عبارات متفرّقة كتبت بخطوط وأقلام عدّة وكأن الشخص مشكلٌ أو ملتبس على نحوٍ يجعله موضوعاً جذّاباً لتعليقات سائبة. وعلى ثالثة، نقرأ عبارةً واحدةً مستعارةً من المتنبّي: «كأن الريحَ تحتي»! وتقول المرأة التي على صفحة رابعة أنها «من قلب حلب». وتضيف أنها «خشم عالي» وأن عمرها أربعون وتذكر أسماء أولادها الأربعة: إحسان ومحمد نجم ويوسف وفاطمة الزهراء! إلى أن تذكر شيئاً غير واضح يتعلّق ببلدة الناعمة إلى الجنوب من بيروت وتختم بالقول أن عليها أن تبدأ مجدّداً من الصفر…
نلتقي أيضاً «طبيب أعشاب» يعمل حالياً في الشويفات (إلى الجنوب من بيروت أيضاً) في محلّ للألبسة المستعملة. ثم نصل إلى ولد في نحو العاشرة يقول أنه بلا مدرسة من سنتين قبل أن يتطوع لإطلاعنا على قول يبدو ماثوراً: «بدّك تعرف الحوراني من زرّو الفوقاني»! وأما درّة التاج في المجموعة فهو مضيف الخمّارة الذي يقول: «أنا أردني، أمي من تايلند، ولدت في بيروت وكبرت في حلب. مرتي أجت مبارح من طرطوس بعدما انتقلت من حلب على طرطوس وحالياً في جلّ الديب»… في تلاحق الأمكنة ازدحامٌ للأخطار. ولكن تلوح عبره أيضاً قدرةٌ على ارتجال المخارج لا ينضب معينها.
يُظْهر الكلام إذن وتُظْهر الملامح، شيئاً لا يمكن كسره… ما هو ظاهرٌ أو موضوعيّ، في هذه الحيوات، كلّه هشّ ورخيص قيمته قيمة الحبر والورق اللذين استعملا في رسمه وهو قابلٌ، على غرارهما، للإلقاء في سلّة القمامة. وأما الروح فهي في أغلظ الملامح وفي أدقّها. وهي أيضاً في الكلام، لا يحتاج ظهورها إلى كلمات كثيرة. هي، مثلاً، في «الخشم العالي» لأمّ الأولاد الأربعة وفي الريح التي تحت صاحبنا الآخر.
المزيد يا منيرة!
كاتب لبناني
أحمد بيضون