أحمد بيضون
MAY 10, 2014
من زمنٍ بعيد، تُغْويني مقارنةٌ بعينها يوحي بها الاختلاف في النظر إلى الماضي، وإلى الزمن بأبعاده كافّةً، على ما أعاينه في نظرة العرب المعاصرين إلى تواريخهم وما أقع عليه من نظرٍ مغاير في فلسفات غربية للتاريخ ظهر أكثرها اكتمالاً في العصور الحديثة ولكن لها أصولاً في بعض الفلسفة اليونانية القديمة. تلك هي المقارنة ما بين اعتبار الماضي، والزمن كلّه بالتالي، كَنْزاً (يُنْظَر إليه، عادةً، على أنه مفقود) واعتباره رأسَ مال.
ولعلّي أجد ما يوضح هذه المقارنة في التذكير بأن الرأسمالية، بحسب تجلّيها في الممارسة الدائمة لا في الصياغة النظرية وحسب، تبدي كرهاً شديداً للـ ‘كَنْز′ بمعنى المَصْدر الفعليّ (كَنَزَ كَنْزاً): أي للفعل الذي هو الاستكثار من جمع المال أو ما هو بمثابته من موجودات أخرى قيّمة مع الاستنكاف عن استثماره، بمعنى الكلمة الحرفي، أي عن جعله يُخْرج ثماراً. وتحرص القيادات الاقتصادية للدول أو للمجاميع الدولية على تثبيط الميل الذي يظهره المودعون إلى إبقاء أموالهم بمثابة الأمانات لدى المصارف، مستنكفين عن الدفع بها إلى مشاريع تجارية أو صناعية أو غير ذلك، ومكتفين بما يجنونه من فائدة على الوديعة. وهو ما يحمل مراكز القرار المالي على خفض الفوائد، بقَدْر ما تأذن به المنافسة.
هكذا يجد المودعون أنفسهم مضطرين إلى الاستثمار إذ يشهدون ذواء ودائعهم التدريجي بداعي التضخم وقصور الفوائد عن تعويض الخسارة. وقد لا يتجاوز إذعان المودع، في هذه الحالة، تجميد الوديعة لأجَلٍ لقاءَ رفع المصرف لنسبة الفائدة المقرّرة لها وهو ما يتيح للمصرف نفسه أن يستثمرها في السوق في صورة قروض لأصحاب المشاريع أو زيادة لمحفظة أسهم يقتنيها، إلخ. هذا كلّه يمثّل نقلاً للوديعة من حالة الكنز (الذي تعتبر المجوهرات المودعة في صندوق صورته المثلى) إلى حالة رأس المال الذي يتجسد في تجهيزات لازمة للإنتاج أو يصبح دوّاراً بما هو أجور وموادّ أوّلية ويؤول إلى سلعٍ مطروحة لنوعٍ ما من أنواع الاستهلاك… ليبدأ دورة جديدة وقد ازداد حجمه مع تحقق القيمة المنتظرة، في السوق، للسلع المنتجة.
يلازم هذا المسارَ، بالضرورة، مخاطرُ يتحمّلها المستثمر ولا يتحمّل مثلَها المودع الذي لا يرجو من المصرف غير الأمان لأمواله. فإذا كان صاحب الوديعة يتقبل تآكل قيمتها الفعلية حين يبقيها تحت الطلب فإن المستثمر قد يواجه، في خضمّ أطوار للسوق لا سلطان له عليها، خسائر أفدح بكثير وأسرع وقوعاً. وأما صاحب الكنز، بالمعنى المطلق للكلمة، فيستبقي لنفسه القدرة على تفقّد كنزه في خزانته كلّ صباح مطمئنّا إلى بقائه في الحالة المادية التي تركه عليها. ولا يعني الثبات المادّي هذا ثباتاً في القيمة او وقايةً للكنز من منطق السوق. فإن الذهب، مثلاً، تصعد قيمته وتهبط وهو حبيس الخزائن لم يطرأ على حاله المادّية أيّ تبديل… مع ذلك، تكره الرأسمالية بقاء الكنوز في خارج الانتاج وتجهد لجذبها إلى دائرته أي لتحويلها إلى رساميل.
للضدّية القائمة بين الكنز ورأس المال وجاهة مؤكّدة، إذن، وفاعلية مستمرّة.
من هذا كله أردنا الوصول بصدد الزمن، في ما نعتبره عوالمنا وفي ما نعدّه عوالم الغير، إلى ملاحظة يسيرة المظهر ولكنّها فادحة العاقبة. وهي أننا ننظر في أزمنتنا رجوعاً مبتغين العودة منها إلى لحظة بعينها نعدّها موئل القيمة أو إلى عصر أو عصور شهدت تكوّن ما نجد له قيمة ممّا نطلق عليه اسم ‘التراث’. هذا النظر الرجعي – بسائر معاني الصفة – إلى الزمن يسلب الحاضر والمستقبل كلّ قيمة يسعهما أن يكونا، بحدّ ذاتهما، مصدراً لها. فلا توجد قيمةٌ في الحاضر أو المستقبل أو لهما ما لم تكن استعادةً للماضي أي ناشئةً، على وجه التحديد، من الشبه بالأصل أو من الاقتداء بـ’التراث’. هذا والحاضر والمستقبل مقصّران حتماً، في منطق هذه النظرة، عن شأو الماضي-المثال الذي هو ‘منقطع النظير’ بالمعنى التامّ للعبارة. هذا الماضي لا ننفكّ نقصّر عن سويّته كلّما مضى بنا الزمن بعيداً عنه.
عليه كان الماضي، بما هو رأسُ مالٍ، زمناً مُدْرَجاً في الحركة الحاضرة نحو المستقبل، يزيد فيه أصحابه بنتيجة كلّ دورة وينقلونه، بعد أن يخاطروا بما وصل إلى أيديهم منه، من حالٍ إلى حالٍ أخرى. وهم يعتبرون الحال الجديدة، على التعميم، موئلاً لقيمة أسمى من القيمة التي كانت في السابقة. وذاك بقَدْر ما توافق هذه الحال حاجاتِ الأحياء الراهنة وبقَدْر ما تبدو مفتوحةً على مُقْبلٍ يعدّونه أمْثَلَ ممّا سلف. وأما ماضينا- الكنز فيستوي موضوعاً للتأمّل والحسرة، تمتزج في النظرة إليه رغبة في التمثّل بصوَرِه المختزنة وشعور بنكوصٍ تفاقَم مع الزمن دون هذه الغاية. نفتح خزائننا إذن كلما ضاقت بنا السبل ونلقي نظرةً على ‘الأصل’ أو على ‘التراث’: على ما يحلو لنا أن نعدّه عصراً ‘ذهبياً’… ننظر إلى كنزنا محتَسِبين لأنفسنا قيمةً ثابتة عظيمة نستمدّها منه أو من صوره المشغولة في مخيّلاتنا. بل إننا كثيراً ما نشفع التعبّد للكنز الذي هو الماضي بالشعور أنه قد سُرِق منّا ولم يبقَ لنا منه سوى الأخيلة. وهو ما يرجّح موقف النَدْب والحسرة على كلّ موقفٍ آخر حيال الزمن.
وعلى الإجمال، لا ننتبه إلى أن الكنوز أيضاً معرّضة، وهي في خزائنها، لأهوال السوق: لأهوال التاريخ والعالم. فما بالك بأصحاب الكنوز إن كانت صُوَرُها كلَّ ما يملكون؟
كاتب لبناني
ولعلّي أجد ما يوضح هذه المقارنة في التذكير بأن الرأسمالية، بحسب تجلّيها في الممارسة الدائمة لا في الصياغة النظرية وحسب، تبدي كرهاً شديداً للـ ‘كَنْز′ بمعنى المَصْدر الفعليّ (كَنَزَ كَنْزاً): أي للفعل الذي هو الاستكثار من جمع المال أو ما هو بمثابته من موجودات أخرى قيّمة مع الاستنكاف عن استثماره، بمعنى الكلمة الحرفي، أي عن جعله يُخْرج ثماراً. وتحرص القيادات الاقتصادية للدول أو للمجاميع الدولية على تثبيط الميل الذي يظهره المودعون إلى إبقاء أموالهم بمثابة الأمانات لدى المصارف، مستنكفين عن الدفع بها إلى مشاريع تجارية أو صناعية أو غير ذلك، ومكتفين بما يجنونه من فائدة على الوديعة. وهو ما يحمل مراكز القرار المالي على خفض الفوائد، بقَدْر ما تأذن به المنافسة.
هكذا يجد المودعون أنفسهم مضطرين إلى الاستثمار إذ يشهدون ذواء ودائعهم التدريجي بداعي التضخم وقصور الفوائد عن تعويض الخسارة. وقد لا يتجاوز إذعان المودع، في هذه الحالة، تجميد الوديعة لأجَلٍ لقاءَ رفع المصرف لنسبة الفائدة المقرّرة لها وهو ما يتيح للمصرف نفسه أن يستثمرها في السوق في صورة قروض لأصحاب المشاريع أو زيادة لمحفظة أسهم يقتنيها، إلخ. هذا كلّه يمثّل نقلاً للوديعة من حالة الكنز (الذي تعتبر المجوهرات المودعة في صندوق صورته المثلى) إلى حالة رأس المال الذي يتجسد في تجهيزات لازمة للإنتاج أو يصبح دوّاراً بما هو أجور وموادّ أوّلية ويؤول إلى سلعٍ مطروحة لنوعٍ ما من أنواع الاستهلاك… ليبدأ دورة جديدة وقد ازداد حجمه مع تحقق القيمة المنتظرة، في السوق، للسلع المنتجة.
يلازم هذا المسارَ، بالضرورة، مخاطرُ يتحمّلها المستثمر ولا يتحمّل مثلَها المودع الذي لا يرجو من المصرف غير الأمان لأمواله. فإذا كان صاحب الوديعة يتقبل تآكل قيمتها الفعلية حين يبقيها تحت الطلب فإن المستثمر قد يواجه، في خضمّ أطوار للسوق لا سلطان له عليها، خسائر أفدح بكثير وأسرع وقوعاً. وأما صاحب الكنز، بالمعنى المطلق للكلمة، فيستبقي لنفسه القدرة على تفقّد كنزه في خزانته كلّ صباح مطمئنّا إلى بقائه في الحالة المادية التي تركه عليها. ولا يعني الثبات المادّي هذا ثباتاً في القيمة او وقايةً للكنز من منطق السوق. فإن الذهب، مثلاً، تصعد قيمته وتهبط وهو حبيس الخزائن لم يطرأ على حاله المادّية أيّ تبديل… مع ذلك، تكره الرأسمالية بقاء الكنوز في خارج الانتاج وتجهد لجذبها إلى دائرته أي لتحويلها إلى رساميل.
للضدّية القائمة بين الكنز ورأس المال وجاهة مؤكّدة، إذن، وفاعلية مستمرّة.
من هذا كله أردنا الوصول بصدد الزمن، في ما نعتبره عوالمنا وفي ما نعدّه عوالم الغير، إلى ملاحظة يسيرة المظهر ولكنّها فادحة العاقبة. وهي أننا ننظر في أزمنتنا رجوعاً مبتغين العودة منها إلى لحظة بعينها نعدّها موئل القيمة أو إلى عصر أو عصور شهدت تكوّن ما نجد له قيمة ممّا نطلق عليه اسم ‘التراث’. هذا النظر الرجعي – بسائر معاني الصفة – إلى الزمن يسلب الحاضر والمستقبل كلّ قيمة يسعهما أن يكونا، بحدّ ذاتهما، مصدراً لها. فلا توجد قيمةٌ في الحاضر أو المستقبل أو لهما ما لم تكن استعادةً للماضي أي ناشئةً، على وجه التحديد، من الشبه بالأصل أو من الاقتداء بـ’التراث’. هذا والحاضر والمستقبل مقصّران حتماً، في منطق هذه النظرة، عن شأو الماضي-المثال الذي هو ‘منقطع النظير’ بالمعنى التامّ للعبارة. هذا الماضي لا ننفكّ نقصّر عن سويّته كلّما مضى بنا الزمن بعيداً عنه.
عليه كان الماضي، بما هو رأسُ مالٍ، زمناً مُدْرَجاً في الحركة الحاضرة نحو المستقبل، يزيد فيه أصحابه بنتيجة كلّ دورة وينقلونه، بعد أن يخاطروا بما وصل إلى أيديهم منه، من حالٍ إلى حالٍ أخرى. وهم يعتبرون الحال الجديدة، على التعميم، موئلاً لقيمة أسمى من القيمة التي كانت في السابقة. وذاك بقَدْر ما توافق هذه الحال حاجاتِ الأحياء الراهنة وبقَدْر ما تبدو مفتوحةً على مُقْبلٍ يعدّونه أمْثَلَ ممّا سلف. وأما ماضينا- الكنز فيستوي موضوعاً للتأمّل والحسرة، تمتزج في النظرة إليه رغبة في التمثّل بصوَرِه المختزنة وشعور بنكوصٍ تفاقَم مع الزمن دون هذه الغاية. نفتح خزائننا إذن كلما ضاقت بنا السبل ونلقي نظرةً على ‘الأصل’ أو على ‘التراث’: على ما يحلو لنا أن نعدّه عصراً ‘ذهبياً’… ننظر إلى كنزنا محتَسِبين لأنفسنا قيمةً ثابتة عظيمة نستمدّها منه أو من صوره المشغولة في مخيّلاتنا. بل إننا كثيراً ما نشفع التعبّد للكنز الذي هو الماضي بالشعور أنه قد سُرِق منّا ولم يبقَ لنا منه سوى الأخيلة. وهو ما يرجّح موقف النَدْب والحسرة على كلّ موقفٍ آخر حيال الزمن.
وعلى الإجمال، لا ننتبه إلى أن الكنوز أيضاً معرّضة، وهي في خزائنها، لأهوال السوق: لأهوال التاريخ والعالم. فما بالك بأصحاب الكنوز إن كانت صُوَرُها كلَّ ما يملكون؟
كاتب لبناني