Source: كلمن | ثورتا تونس ومصر
ثورتا تونس ومصر:
الشعب بلا شعبوية
أحمد بيضون
أعادت الثورة المصرية الاعتبار إلى مفهوم الشعب. وكانت ثورة تونس قد فعلت قبيلها الشيء نفسه. وانتشرت بوادر من القبيل نفسه من الجزائر إلى اليمن إلى الأردن فإلى العراق… وراحت دمشق تسأل نفسها عن مآل الصمت المخيم عليها. وانفجرت جزيرة العرب والهلال الخصيب ضاحكين وهما يتلقيان موجة “المكرمات” من ملكية وأميرية ورئاسية، وقد أطلقها الرعب المنبعث من وقائع الأيام العظيمة في ميدان التحرير وفي غيره من ساحات مصر. وفي إيران نفسها، كانت ثورة مصر مناسبة لنوع من عودة الروح إلى الثورة الخضراء المقموعة.
الذين كانوا قد نسوا قوّة الشعوب، بين مشرق هذه البلاد ومغربها، لم يكن نسيانهم اختياراً. طال بهم العهد بما بدا نسياناً من الشعوب لنفسها. من يوم أن انهار جدار برلين و كبت رياح الحرّية التي هبّت من بين أنقاضه دون الحدود العربية، راح العالم ينعتنا بأننا استثناء من الديمقراطية. وبدا أن الجديد الخارج من بين ظهرانينا لن يلبس غير وجه الأصولية وإرهابها وهذا إرهاب باشر الفتك بمجتمعاتنا قبل أعدائها من حقيقيين ومفترضين. وهو لم يكن غير الصورة القصوى ليأس هذه المجتمعات من نفسها ومن تاريخ اختارت التوهّم أنها توقفه أو تطويه طرفاً على طرف. ولم يكن اليأس من التاريخ مختصّاً بأصحاب الإرهاب الأصولي في الواقع. كان يبدو شاملاً ولم يكن هناك من جواب عن السؤال: ماذا تفعل هذه المجتمعات بنفسها وإلى أين هي مفضية، وهل بقيت فيها إرادة غير إرادة أعدائها الذين في الداخل وفي الخارج وإرادة أعداء أعدائها الذين هم أعداؤها أيضاً بل قد يكونون ألدّهم؟
الذين من بيننا كانوا قد يئسوا من التاريخ يعود إليهم اليوم شعور بأنهم هم أنفسهم، الفرد منهم والجماعة، أمواج حرّة في بحر إرادات عظيم. وليس غير الحرّية ما يصحّ أن تنعت به هذه الحركة المترامية وما فيها من مواقع عناد ومن مواقع تردّد. وهذا على الرغم من أهوال البؤس والذلّ التي كان لا بدّ من شيء جامع وجارف ينقض الاستكانة لها ويقطع الصبر عليها. فلا شيء يبدو في ما هو جارٍ مما يمكن أن ينسب إلى القدر أو يشبّه به. بل إن هذه حركات لا تمنع شدّة بأسها ولا عنادها من أن تبقى اليد على القلب خوفاً عليها وعلى من فيها، من يوم إلى يوم ومن محطّة إلى محطّة.
في كل يوم من أيام الثورة المصرية، خصوصاً، كان المصير معلّقاً على حسن التصرّف وعلى الحصافة في القرار: على الولوج في مسلك بعينه، يجاد اختياره، وعلى اجتناب سواه عند كل مفترق. وكان بادياً أن المفترقات نفسها تغيّر مواضعها من يوم إلى يوم. لم يكن هناك قدر ولا نصر محتوم. كان هناك بشر أجادوا الخروج السلمي بإرادة غالبة صائبة، عند كل محطّة، وفرضوها على أنفسهم قبل أن يفرضوها على نظام أرادوا إطاحته، وكان يناور ويراوغ وعاند طويلاً. كل يوم، كانت الأيدي على القلوب خشية من شقوق تبدّد الصفوف أو تذرّ فيها العنف فتشل المبادرة وتفتح الباب إلى المحذور من جهة النظام أو من جهة الثائرين عليه. وكان يزيد الخشية هذا الغموض في هوّيات المبادرين الجدد وفي كيفيّات قيادتهم لحركتهم وهذا التعدّد في بؤر المبادرة الشبابية. وكذلك ما هو معلوم، على الضفة الظاهرة، من تهالك وتخاذل في تنظيمات المعارضة التقليدية. في كلّ حال، كنّا حيال بشر أحرار ولم يكن هناك من قدر. وهذا ما سنبقى نختبره في مستقبل هذه الثورة المصرية نفسها وهذا ما سنظل نشهده في البؤر الأخرى التي لم تُخرج إلا أوائل أثقالها حتى الساعة.
عادت الشعوب إذن وعادت محرّرة لإرادات أبنائها ومكوّناتها لا طاغية على هذه وعلى أولئك طغياناً يستوي وجهاً آخر لطغيان النظام البائد وقد يصير إلى أفظع منه. لا أحد يخاف اليوم في مصر أن يقول كلمته أية كانت، وليس هناك من كلام يلقي بأصحابه في غيابة الجبّ أو إلى التهلكة. والمعوّل على أن يديم المصريون على أنفسهم نعمة هذه اللحظة العظيمة. الشعب، حتى الآن، ليس شعبوياً.
في ما جرى وما هو جار إشارات إلى أن الخروج من الاستثناء العربي من الديمقراطية قد بدأ وأن المرحلة الثورية منه قد حسمت في أهمّ مواقعه على الإطلاق: مصر. قبل ذلك، وجد، بفعل اليأس أو المصلحة، من تقبّل مزاعم الولايات المتّحدة البوشية أن الجيوش المحتلة قادرة على الخروج بالعراق من طغيان الفرد والحزب – العشيرة إلى رحاب الديمقراطية. اليوم تمثّل تونس ومصر نموذجين تجب مقارنتهما – في ما يتعدّى الفوارق الاجتماعية التاريخية – بالنموذج العراقي. يخرج المصريون وقد ازدادوا وحدة على النحو الذي تستحب عليه الوحدة ويباشرون تنظيف ميدان التحرير إشارة إلى العزم على البناء: على إعادة البناء وعلى زيادته. وحتّى مخزون التوتّر الإسلامي القبطي الذي كان متنامياً مالت به الثورة إلى الانكفاء. وكذلك بدت حال العنف المدني الذي يمثّله التحرّش بالنساء. هذا فيما يواصل العنف الأهلي مساره في العراق بعد دمار الحرب ويخشى ألا يزيده انقشاع الاحتلال إلا استعاراً… يقف العراقيون مقسّمين إلى درجة تجعل من تشكيل حكومة لهم مهمّة تبقى عصية على العلاج لما يقارب السنة. وحين تشكّل الحكومة، يستشعر العراقيون، على غرار غيرهم في محيطهم العربي، حاجة إلى التظاهر طلباً لحقوق أوّلية للغاية راحوا يبتعدون عنها، في سنوات من الاحتلال والتقاتل، من الدمار والنهب، أو راحت هي تبتعد عنهم.
في تونس وفي مصر، لم يصنع الإسلاميون الثورة ولا هم قادوها. لا إسلاميو التكفير والاستئصال ظهروا فيها، ولا إسلاميو “الاعتدال” من نهضويين وإخوان أمسكوا بزمامها. كانت تلك مفاجأة لكل من كان يتحسّب من تغيير لا يكون بعده تغيير: تغيير لا يبقى بعده من يقوى على طلب التغيير، أي ديمقراطية تصلح للاستعمال مرّة وحيدة. ذاك تحسّب كان أصلاً من الأصول الكبرى التي شكّل منها نظام حسني مبارك ونظام زين العابدين بن علي رأس مالهما وضمان بقائهما و”حقّهما” في أن تطلق يدهما في نهب البلاد وإذلال العباد.
الآن سيجد الإسلاميون، في مصر وفي تونس، فرصهم شأنهم شأن سواهم. وطالما بقيت أصول ما يسمى “اللعبة” الديمقراطية مرعيّة، سيكون الحجم الذي يعطونه حقّاً لهم ما داموا يقرّون سائر الأطراف كلّاً على حقّه. فليس للثورة من مصلحة في أن تختصر قاعدتها بالاستبعاد، على الغرار العراقي. ولن يكون حقّاً للإسلاميين بل سيكون عسيراً عليهم أن يجبهوا سواهم بمثل ذلك. ولن يكون لسواهم حقّ في استبعادٍ يكون ضحاياه من غير المرتكبين: من الإسلاميين، مثلاً، أو من أنصار للنظام السابق لم يجنوا جناية موصوفة ولا غصبوا حقّاً.
اليوم تباشر مصر عودتها إلى نفسها، بلاداً كبيرة وقطباً لدائرة هذا الشرق. وهي تعود، بادئ بدء، لا خدمة لقضية تقع خارج حدودها، أيّة تكن القضية. هي من سيقرّر أية قضايا ستخدم وكيف وأيّ نزاع أو أكثر قد تستأنف وإلى أي حدّ. الديمقراطية، بحدّ ذاتها، حائل أوّلي دون التبعية وإن تكن البلاد صغيرة فكيف في حال دولة استردّ لها شعبها هذا الحجم الذي هو حجم مصر، أو هو باشر هذا الاسترداد. بدا باعثاً على السخرية من أوّل يوم كل تلميح إلى تحكّم خارجي ما في الحركة المصرية. بدا واضحاً أن قومة لها هذا العرض وهذه القوّة لا يحكمها غير ذويها. ولن يكون مختلفاً حال السلطة التي تنشأ من هذه الحركة: لا تسخّر ولا تشتط ما دامت عيون منشئيها رقيبة عليها.
مع ذلك أو بسبب ذلك، يستعيد المحيط العربي بعودة مصر مركزاً يتعرف فيه نفسه. فإن لأيّ منّا أن يلاحظ، من غير صدور عن عصبية أو عن ضيق أفق، أن ترنّح مصر الطويل قد أنشأ في الإقليم العربي حاجة لم يلبّها حقّ تلبيتها أي طرف عربي آخر: حاجة إلى قطب وإلى قيادة. هذا القصور في التلبية هو ما جعل لإيران، من وقت ثورتها، ولتركيا مؤخّراً حكماً مباشراً ومدخل أمر ونهي في أمور هذه المنطقة. وهذا شيء لا تزال تبعات قديمه الإيراني واضحة الرزوح على مجتمعات عربية عديدة: من الأقطار الحافّة بالخليج إلى بلاد الشام. وأما تبعات جديده التركي فهي لا تزال غير واضحة. ولعلّ أوّل أثر مأمول لمصر الثورة في محيطها صبّ الماء على النار المذهبية التي تبدو من سنوات موشكة على التهام الأخضر واليابس. فإن من طبائع مصر وسنن قيادتها، مع كونها دولة إسلامية سنيّة بالدرجة الأولى، أن تحلّ سلوكها القيادي فوق هذا الضرب من الانقسام. وهو ما يعنيه انتماؤها، في آن، إلى تلك الدوائر الثلاث التي أحصاها جمال عبد الناصر في فلسفة الثورة.
وقد كان ترنّح مصر أسهم أيضاً في فتح أبواب التعسف أمام إسرائيل، فمضت لا تلوي على شيء ولا على أحد في تطبيق سياسة يراد لها أن تؤول إلى تصفية الوطن الفلسطيني على الأرض. وهو ما تبتغي منه، على الأرجح، أن يمهّد لإخراج الشعب الفلسطيني من أرضه مرّة ثانية وأخيرة، بالتهجير أو بهجرة تشبه التهجير… وذاك لعلّة أن ما يزيد عن خمسة ملايين من العرب الفلسطينيين لا محلّ لهم تحت سماء “الدولة اليهودية”، وقد راحت هذه تغطي فلسطين التي يقيم على أرضها هؤلاء من أقصاها إلى أقصاها. لم يكن في العالم العربي ما يعوّض الانكفاء المصري: لا القيادة السعودية لما سمّي “الاعتدال” ولا التنقل السوري المدروس بين الإقامة الطويلة على الركبة الإيرانية والجلوس القلق العابر على الركبة السعودية… ولا التعملق القطري أخيراً لا آخراً.
في السنوات الأخيرة، لم يكن أحد يقيم في مصر أو يزورها أو يعرفها يقول كلمة مطمئنة في أحوال مصر والمصريين. كان ثمة نوع من الإجماع في أحاديث العارفين على أن تلك الأحوال بلغت من السوء الدرجة التي يتعذّر تحمّلها أو هي جاوزت تلك الدرجة. ولم يكن الإعلام يولي هذا الأمر ما يفترض له من الاهتمام. بدا، بالأحرى، أن ثمة يأساً مستتبّاً يترجَم بما يشبه الصمت أو الإهمال. وكان مؤدّى هذا أن أحداً لم يكن يتوقّع هذا الذي جرى تحت أبصارنا وامتحن أعصابنا طوال هذه الأيام القليلة العدد، المتمادية الطول.
كانت تلك ثورة دافعت بالدم المراق عن صفتها السلمية وعن نبذها العنف. وكانت تلك أيام تجديد للصورة التي في مخيلتنا لمجتمعاتنا اليوم: لما في شبابها من عزيمة ولما هو متاح لهم من أساليب غير معهودة في التواصل والتنظيم والحركة وللعلاقات فيها بين الطبقات والفئات والشرائح. بدا، في مصر خصوصاً، أن ثمة قاعدة وطيدة وجدّ عريضة لالتقاء المختلفين في حركة وفي مشروع. وكانت تلك أيام سموّ أظهره المصريون وارتفع بهم إلى سماء من العزّة وارتفع بنا معهم. استوعب الثائرون موجة البلطجة المشبوهة وراحوا، من ثمّ، يحمون أهلهم وعمران بلادهم وتراثها. صنعوا لثورتهم لغة جمعت التسامح الرائع والبعد عن البذاءة إلى خفّة الظل والبعد عن نوع بعينه من السماجة الثورية: السماجة التي يشبه الكلام فيها أحذية الجنود وتبطن القمع أو تكون حبلى به. غابت لغة الثأر الأعشى الذي لا ينتظر القانون ولا يأبه لإثبات الوقائع ويروح يرتجل الديّانين. بقي أنصار النظام آمنين، إجمالاً، في بيوتهم الفارهة وفي مقاهي الأحياء الشعبية سواء بسواء وأسمعوا كل يوم أصواتهم على الشاشات وكانت وجوههم مكشوفة ولم يبدوا خائفين. وحين ذكر لفنّان من أبناء الثورة اسم زميل له من خصومها قال إنه لو حوسبت أم كلثوم بعد 1952 على مدحها الملك فاروق لخسرت مصر أم كلثوم!
كنّا نسمع ونتعلم. نتعلّم خصوصاً من هذا الشباب المسؤول الذي أبدى صلابة فوق الوصف ولكنّه أبدى تقديراً لمسؤوليته فوق الوصف أيضاً. فلم يذهب إلى شعار فيه إفراط ولا طلب شيئاً أو فعل شيئاً ينمّ باستهتار ما بسوء العاقبة أو ينذر بسوق البلاد إلى متاهة. بدا، في مصر خصوصاً، أن ثمّة خشية بعيدة الغور: خشية تاريخية من الفراغ في السلطة وبعداً عن نبذها بما هي سلطة، وبدا أن ثمّة احتراماً مسبقاً للسلطة المقبلة. ولا ريب أن ثورتي تونس ومصر بقي عندهما الكثير نتعلّمه من بنيهما حين يروون وقائع ويصوغون تاريخاً صنعوه أو يبدعون تشكيلات أو يكتبون أشعاراً أو يطلعون بروايات أو بأفلام… وإذا كان ما جرى في القاهرة وفي تونس يذكّر بما شهدته طهران سنة 2009 فمعنى هذا أن الدروس تتناقل وأن الشعوب يتعلم بعضها من بعض ولو كان على كل منها أن يبتكر ما يوافق أحواله وعبقريته.
ما شهدناه في تونس وفي مصر كان ثورة ديمقراطية من أرفع طراز وكان مطلب الحرّية خلاصته الأعمق. وقد ائتلف طلب الحرّية هذا وطلب العيش الكريم ليتشكّل منهما صلب الثورتين. ومن الحرص على هذا الائتلاف يفترض أن تنبجس اليقظة في مرحلة ما بعد الثورة وبهذا الحرص يفترض أن تقاس قيمة النظم والمنجزات. فهذا ائتلاف متوتّر بطبعه. بل إن توتّره هو الأصل في توتّر العالم المعاصر في أكثر من مائة سنة مضت. هل يصحّ التفريط بالحرّية طلباً للعدل الاجتماعي وهل يتحصّل عدل بلا حريّة وهل يبقى عدل بلا حدّ من الحرّيات؟ تلك أسئلة تزداد حدّة في مجتمعات استنزفها الطغيان المتمادي والفساد الكاسح الماسح وهي تباشر الخروج منهما اليوم وقد خلّفا فيها من المشكلات ما يبلغ الجبال طولاً ويزيد.
في ما يقرب من ستين سنة، اختبرت مصر، على الخصوص، نموذج “الاشتراكية” أوّلاً بما صحبها من قمع وتعسّر للإنماء وعيوب فيه ومن تبديد ومن تكوين للشرائح الطفيلية أيضاً. ثم اختبرت نموذج الليبرالية الكاسرة، المؤالفة للطغمة الحاكمة حتى النخاع، وقد نشرت النهب والفساد من أعلى إلى أسفل ومعه ذلّ الفقر للأكثرين ولم تأت من الحرّية إلا بما لا يحفظ كرامة ولا يقوّم عوجاً ولا يمكّن من محاسبة. تلك ذخيرة من الخبرة يفترض أن يمدّ بها الثورة تاريخ مصر المعاصر. فتستعين بها قيادات المرحلة الجديدة وهي تسلك الطريق الذي فتحته تضحيات المصريين وهم الأدرى بطوله وبمشقّاته. الخيارات الشاقّة ستكون كثيرة وسيبقى ماثلاً إمكان التيه عن المفترقات وتيه المفترقات نفسها.
وفي لبنان وفي غيره، تمثّل الحركتان التونسية والمصرية وما يضطرب على وقعهما في أرجاء الدنيا العربية كلها فرصة لمحاسبة النفس وليس للتطفّل أو للتبجّح بسبق لهذه أو بانتماء إلى تلك. فليس منتمياً إلى ثورة حققت وحدة الإرادة الشعبية في الساحات من يكون غارقاً في ما حفره من خنادق الطائفية إلى أذنيه ويرتضي، كرمى لجماعته في الطائفة، أن تكون بلاده “ساحة” لقوى الخارج فيما هيئتها السياسية ساحتان! وليس منتمياً إلى ثورة ديمقراطية من يستمدّ جلّ كينونته السياسية من استخذائه لأنظمة في الجوار لا يعوزها شيء ممّا قامت في وجهه الثورتان المصرية والتونسية. فمع أن التنبّه مطلوب إلى ما يختصّ به كلّ نظام سياسي، لا يبدو أن ثمّة اختلافاً يعتدّ به، في هذا الصدد، ما بين أنظمة “اعتدال” وأنظمة “ممانعة”. هذا إذا صحّ وجود الاعتدال وصحّ وجود الممانعة أصلاً. هنا كما هناك كما هنالك تداس الحقوق وتحبس الحرّيات وتنهب الثروات ويتنامى التفاوت وتستباح الكرامات ويقبع الكذب في السلطة. ومن هنا ومن هناك ومن هنالك، يسخّر اللبنانيون، على الخصوص، بالثمن البخس. فيوضعون على شفير الخراب وهم مسلّمون للممسكين بأعنّتهم بالحقّ في تقريبهم من الشفير أو في إبعادهم عنه أو في إلقائهم في أتون حرب داخلية أو خارجية كلما لزم الأمر. وسواء أكان التسليم لهذه الجهة أم لتلك، فإن في التسليم بهذا عداء لا قرارة له للقيم التي رفعتها الثورتان المصرية والتونسية عالياً. فأي انتساب إلى الحرية والكرامة يحقّ ادّعاؤه للبنانيين يقادون بالسلاسل ولو إلى الجنّة؟ فكيف وهم يقادون إلى الخراب؟
13 شباط 2011