كلمن | مائة وثمانون غروبا أم عشرون سنة؟

Source: كلمن | مائة وثمانون غروبا أم عشرون سنة؟

 

 

مائة وثمانون غروبا أم عشرون سنة؟[1]

 

أحمد بيضون

 

تتألف رواية حسن داود هذه من ثمانية فصول يتداول فعل القصّ فيها أربعة رواة. تبدو الزهرانية التي استوطنها هؤلاء الرواة حالة عمرانية تصعب نسبتها إلى فئة من الفئات المألوفة التي تصنف إليها حالات العمران عادة. فلا هي مدينة ولا هي بلدة ولا هي قرية… وإنما هي مقام استحدثه  على قارعة الطريق الساحلي أناس جاؤوا إليه من مواطن مختلفة وإن تكن هذه المواطن تبقى هي أيضا غير محددة. ونحدس أن الطريق كان لها الأثر الأبرز في نشوء هذا المقام إذ هي شجّعت على إنشاء المحلات التجارية. ونخمن أيضا – مجرّد تخمين لا يزكيه أي من الرواة – أن الأرض هناك كانت مباحة أو مستباحة لمن يريد البناء لا ثمن لها. وما يؤكد هذا الاضطراب الذي يشوب هوية هذا العمران المسمى الزهرانية إنما هو افتقاده إلى مقبرة وهو ما يلاحظه الراوي الأول في مستهل الرواية موحيا أنه تأخر كثيرا حتى انتبه إلى هذا الأمر. هذا فيما تنبئنا راوية أخرى نعلم أنها بقيت أمية هي وإخوتها الصغار، أن الزهرانية بلا مدرسة أيضا.

 

هذا الاضطراب لا يعني أن الزهرانية نمت كيفما اتفق. فنحن سرعان ما نعلم أن البيوت المحاذية للبحر هي بيوت المسيحيين. وهذه بيوت قديمة يرجح الراوي الأول نفسه أن شخصا واحدا، على الأقل، كان قد مات في كل منها، حين جاء هو وأخوه قبل عشرين سنة إلى الزهرانية. وهو ما يحمل على السؤال عن هوية الذين تعلو بيوتهم المحلات فوق الطريق وعن هوية آخر القادمين، أولئك المتكاثرين في بنايات أخذت تتكاثر فوق الهضبة. الذين في الوسط فوق الطريق، ومنهم يخرج الرواة الأربعة، نخلص إلى هويتهم بعد تردد منشأه الأسماء الأعلام المحايدة من قبيل عاطف وطاهر وسلمى وكوثر وتيسير وجميل… وحتى وليد. ولا يقطع التردد إلا ولادة طفل لسلمى وطاهر في الدانمارك يسميانه عمر. أخيرا نرجح أن الذين حلوا، على عجل، فوق الهضبة في بنايات تكاثرت على عجل أيضا، هم من الشيعة. ونزداد ترجيحا لذلك حين ينزلون في عرض لكثرتهم إلى الطريق بعد خلاف “حدودي” مع واحد من أصحاب المحلات… ينزلون عشرات أو مئات فتقول السنيّة زوجة أبو عاطف إنهم مائة ألف!

 

لا يرمي تكثير الرواة إلى استحضار وجهات نظر الفئات التي أفضى اختلال موازين العلاقات بينها، مع زحف الحرب، إلى خراب الزهرانية. فإن اثنين من الرواة أخوان والثالثة جارتهما في المبنى الذي يضم محلهما ومنزلهما والرابع قريب إلى هؤلاء أيضا وإن يكن منزله يعلو الطريق شيئا ما ولا نجاوز من معرفتنا بهويته الطائفية تخميننا أنه مسلم هو أيضا. فالذين اضطلعوا بالأدوار الحاسمة، سواء أكانت تسريع العمران بما جلبه من توتّر أم كانت تسليح المسيحيين (الذي لا نعاين ما يثبته فعلا فيبقى أدنى إلى الخبر الطائش أو الشائعة) أم كانت تهجير هؤلاء المسيحيين أنفسهم من طريق البحر بعد أن أصبحوا مهددين أم كانت الانقضاض على بيوتهم ونهبها يبقون، في الرواية، أشبه بجماعات الأشباح فلا نسمع من كلامهم شيئا ولا نلم إلا بالصورة العامة لأفعالهم أو بعناوينها. وأما الذين تناط بهم الروايات المتقاطعة فصولا في هذه الرواية أو المتضافرة على تأليفها فهم بين الأقل فاعلية وإقداما… حتى لتبدو أفعالهم بما فيها ما تحملهم عليه شهواتهم أقرب إلى أن تقع عليهم وقوعا منها إلى أن يكونوا هم المبادرين إليها. هذا إلى أن تقاربهم في القرابة والسكن وتماثلهم في المصدر الطائفي أيضا، على الأرجح، يضيقان كثيرا من مجال رؤيتهم. والمؤكد أن ضعف الفاعلية هذا وضيق التمثيل يوفران المنطلق إلى منح رؤى هؤلاء الرواة صفة المواربة في علاقتها بالمسرح العام، وهي صفة قد يصح اعتبارها مرتكزا لجمال السرد في كل من الفصول وللتكوين البديع الذي ينتهي إليه الهيكل الإجمالي للرواية.

 

وفي موقع الركن من هذه المواربة نفسها يقع الشخص الذي تلتقي عنده معظم الخيوط في نسيج السرد ويبدو أكثر شخوص الرواية حضورا وقوة. فهذا الشخص – واسمه تيسير –  شخص ساهِمٌ، لا يصدر عنه إلا ما يبدو شتات كلمات وفتات أفكار. وكان قد أفضى به حادث إلى شيء من القصور العقلي فضلا عن تشوه خارجي في رأسه. على أن سهوم تيسير ليس عاما، بل هو يبدو إلى النباهة أقرب حين يباشر نصيبه من القص الذي أولاه إياه المؤلف إذ جعله واحدا من الرواة. إذ ذاك يبدو قصوره محصورا في النطق وفي بعض من وجوه السلوك دون غيرها. فهو، على الأخص، حادّ الإدراك لكل حركة أو تغيير في موقعه الرمزي من أبيه أو من إخوته وهو دقيق التمييز للفروق في سلوك من يؤذونه من الشبان المتبطلين حين يكون ذاهبا لبيع عصافيره أو عائدا من رحلته اليومية تلك.

 

وإذ تبدأ النباهة من تيسير (وهو القاصر العقل في نظر المحيطين به) فهي تنتشر إلى سائر الرواة كاشفة همّا مركزيا من هموم هذه الرواية. فكما أن المواربة هي السمة المنظورية وهي الميزة الفنية للسرد هاهنا فإن الصفة الاستراتيجية هي ما يصف سلوك الشخوص بعضهم حيال بعض أي أنها محور الرواية العلائقي. الشخوص هنا ذوو استراتيجيات بمعنى أن الغلبة هي مرمى كل حركة يأتيها أحدهم وهي المعنى الذي ينسبه إلى كل حركة يأتيها سواه. ويشتمل التنازع الدائب هذا على مجال الغرام ولا يقتصر ظهوره على الكلام وحده. فالحوار قليل جدا في هذه الرواية – وهذه القلة ديدن لحسن داود في سائر رواياته – والكلام الذي يقال ينقله كل من الرواة على ذمته – إن جازت هذه العبارة – أو يوجزه، على الأغلب، في الصيغة التي يستنسبها لإيجازه. ولعل حركة العين ومعها تصرّف الأجساد بأوضاعها وبمواقعها هاهنا أوفر من الكلام حمولة بالدلالات في التنازع المشار إليه. فيبدو مصير علاقة برمتها أو تحديد محتواها ومآلها رهنا بنظرة بعينها تطول ثانية أو تقصر ثانية. ويبدو ميزان الانتماء أو عدمه إلى جماعة مستجدة متعلقا بخطوة إلى الأمام أو بأخرى إلى الوراء. أو هو يتعلق بالتلبث لأكثر من طرفة عين حيث يعدّ التلبث استعجالا مفرطا لامتياز ما أو ادعاء في غير أوانه لدرجة من درجات الانتماء لم تستأهل بعد وهي قد لا تستأهل أبدا.

 

في اللعب الاستراتيجي هذا – وهو يتقدم على أنه لعب يعمد إليه البشر بمصائرهم – يجهد الشخوص في استبقاء ما يكونون موجودين بفعله وجودا شخصيا. يجهدون في حيازة شيء خاص بهم مع كونه دائما علاقة بآخر. بل إن هذا الشيء الخاص يقتضي حتى يكون وجوده تاما أن يكون علاقة مباشرة بآخر وعلاقة مداورة بثالث. وأكثر ما يكون الاستحواذ على هذا الشيء الخاص بالنظر ولكنه قد يكون أيضا بتحويل الشهوة وإشباعها إلى منازلة لثالث متخيل. ومن أول الرواية يتقابل في الإيحاء بالمناخ الاستراتيجي موضعان هما قطب ستر وقطب كشف. أما قطب الكشف فهو بيت أبو عاطف الذي يبقى باب مدخله وأبوابه الأخرى مفتوحة لكل ناظر ويقبع صاحبه البصاص على الشرفة لا يعفي شيئا أو أحدا من جولات عينيه النهمتين. والشرفة تبدو مركز البيت الفعلي هي والشباك الذي ستكشف من خلفه سلمى عن صدرها لتيسير وستغلقه بعد ذلك على ما تسميه زوجة أخيها كوثر لعبا معها وما ترى فيه هي شيئا أبعد من اللعب. وأما قطب الستر فهو غرفتان فارغتان خلف المحل الذي يبيع فيه الأخوان الراويتان ألعابا وهو أيضا في بيتهما غرفة احتياطية للنوم وأخرى مهملة يحشر فيها وليد سلمى حين يمكنه من إخضاعها لشهوته افتضاح تعريها لتيسير: افتضاحه للداني، بلا ريب، وللقاصي أيضا، على الأرجح. لا تكاد توجد وظيفة لهذه الغرف سوى افتعال فراغ موحش جعل منه الإهمال موطنا للأسرار وراح يزيد من الوحشة فيه تضافر حرّ الشمس ورطوبة البحر المالحة على تفسيخه ونهشه. وهي وحشة تنتشر لتوحي عبر تفاصيل كثيرة أن الأشخاص إنما يوجدون بقدر ما يسعهم أن يسوّروا مواضع لسرّهم وأن يحجبوها إلا عمن يسلّمون بمشاطرتهم هذا السر حقيقة أو من يشاطرهم إياه في أخيلتهم. الأشخاص يوجدون بقدر ما يسعهم أن يستقلوا بإدارة الشركة التي ينشئونها لأسرارهم وأن يجعلوا من أعمالها أعمال تغلّب على شركاء في هذه الأسرار حاضرين أو غائبين ولكن لا مناص من استحضارهم إذا غابوا.

 

وبين ما يتيحه تكثير الرواة اكتشافنا أن ما يحتسب مستورا قد كشفه الجميع في الواقع. وهذا في مجال ضيق تختزل فيه الغلبة الاستراتيجية إلى توسيع لزاوية الرؤية أو إلى كشف لرقعة شاءها الآخر غير مرئية. فوليد يعلم أن أخاه يشتهي امرأة جاره، خلافا للوصية العاشرة، وهو يمازحه في شأنها من غير أن يسعى إلى تحصيل تصريح قاطع منه أو إلى إفحامه. بل إن سلمى نفسها لا يفوتها اشتهاء “الثخين” الذي لا نعرف له اسما آخر لامرأة أبيها. والشبيبة البطالون الذين يمضون شطورا معتبرة من أيامهم عند عمود الكهرباء يعلمون أن وليد كان قد وصل إلى سلمى، قبل زواجها الإكراهي ورحيلها إلى الدانمرك مسوقة بوقع فضيحتها مع تيسير. وكان وليد يطلق العنان معها، على كره منه وندم يظهران حالما تنقضي لبانته، لضرب من فورة الشهوة المستعجلة فيما هو يحفظ في سره تعلقا ببرناديت المسيحية لم تعتّم الحرب أن  قطعته قبل أن يجرؤ على كشفه.

 

وقد وجد تيسير أيضا، ولكن في المدينة أو البلدة التي يذهب إليها لبيع العصافير، أي في خارج الزهرانية، مطرحا لسره عند امرأة كانت من زبائنه. ولا يخفي تيسير ضيقه حين يشعر بإلحاح تجنح إليه هذه السيدة الخمسينية في السؤال عن التفاصيل. فهذا يخرج السماع من حدّ التوصل إلى ألفة يريدها تيسير لما يفعله هو وسلمى ويجعل منه (أي من السماع) استثمارا جديدا تقبل عليه الزبونة تنشيطا لتهويمها الخاص. فينشأ من ذلك تناسل تهويمي آخر يضاف إلى التناسل السابق للشهوة التيسيرية في شهوة كوثر وسلمى. ثم إن سر تيسير لم يلبث أن جاوز الإثنين بل الأربعة فشاع وذاع. وفي التنازع الاستراتيجي بين شخوص حسن داود، يبدو الهتك أي اقتحام الموضع الذي جعل فيه الآخر سره أقرب شيء إلى ما يسميه الملاكمون الضربة القاضية. ويبدو البصاص أبو عاطف في مطلع الرواية شخصية جامعة بلجاجة وفجاجة لما يحاوله ويجهد فيه بمزيد من الحذق أو من التركيز شخوص الرواية الآخرون. هذا ويستحسن أن نمضي في استنطاق الشبه بالملاكمة إلى حده الأقصى. فقد يوجد ما يشبه تبادل اللكمات والاحتيال للتفادي منها بين شخوص حسن داود في موقف عارض لا يلبث أن ينقضي فيكون أشبه بجولة تزيد أو تنقص في الخلل الذي يسم ميزان العلاقة بين شخصين ولكن من غير حسم… يبدو كافيا، في هذه الحالة، تتبّع أفعال الخصم أي أقواله ونظراته وحركاته لحظات. اليقظة وسرعة البديهة يبدوان كافيين مؤقتا ولا يفوتهما التكفل بشيء من التغيير. وهذا إلى أن يحصل ما يجعل الحسم أو نقل ميزان العلاقة برمته من حال إلى حال أمرا ممكنا.

 

***

 

تداري سلمى افتضاح سرها بالرحيل إلى الدانمرك بعد أن وجدت من مدّ إليها طوق النجاة هذا مشترطا أن يجعل من تكثير الأيدي التي امتدّت إلى جسدها منشطا لشهوته ومرغما زوجته في سبيل ذلك بالتصريح بما حصل وبما لم يحصل من نزهات الأيدي على جسدها. وأما تيسير شريكها في سرها المفتضح فلم يكن له من مهرب غير العنف الأقصى بعد أن تهاوت حصونه كلها. انهارت صورة أبيه الشديد البأس وأصبح يبدو عاجزا عن حمايته فلم يعد مستأهلا خوفه ولا طاعته. كانت قد شاعت أخبار انتشار السلاح في الزهرانية ووصول أكثره إلى أيدي الشبيبة البطّالة. فعادت هذه الزمرة إلى اضطهاد تيسير معتدّة بفقدان والده ما كان له من قدرة على الردع وبتوجسه من الدعم الذي اعتقد أن البطالين يتلقونه من خارج الزهرانية. هكذا لم يبق لتيسير إلا قوة جسده وحقده على ميخا بالذات. وقد أصبح استعداده للدفاع العنيف عن نفسه من غير حدّ إذ كان انكشافه للأذى قد أصبح من غير حدّ أيضا إلا اتّقاد ركام العنف الذي كان مضطهدوه قد ملأوا نفسه به.

 

ولا يفوت المؤلف أن يجعل من ميخا، وهو، في ما مضى من الرواية، أقرب إلى أن يكون أضحوكة رفاقه، أسرع هؤلاء مبادرة إلى مسلك الاستفزاز بما في ذلك العودة إلى اضطهاد تيسير. مع اقتراب أصوات القذائف وما يصحبه من اضطراب في حركة السيارات، كان ميخا، وليس جوزف الذي كان يناكده أول المقبلين على ارتداء السترة العسكرية وعلى استعراض عنجهيته المستجدّة وقد أوكل إلى نفسه حماية الحي. لهذا تعيّن أن يحصل النزال الأخير بين ميخا وتيسير… وهذا بعد أن كان الأخير قد غادر منزله مخالفا رغبة أبيه وأخيه في الاحتباس خلف سور المنزل عسى أن ينفع الاحتباس في دفع المصائب الزاحفة. حصل النزال بأقصى العنف من جهة تيسير بعد أن استقبله ميخا بإيغال في الإهانة جعلها مختلفة عن المعتاد من مناكدة لم تكن تتجاوز، بحسب ما وصفها أبو تيسير، أن تجعل “المنايك” يحسبون أنفسهم رجالا. هكذا قتل تيسير ميخا. قتله بضربه تكرارا على رأسه بحجر كبير. وكما أن اللذة في عالم الزهرانية يشحذها دخول ثالث بين طرفيها، لم يسع تيسير أن يبقي طي الكتمان فعلته التي لم يشهدها أحد. جرى إلى محل الألعاب والحجر في يده وأنبأ الأخوين صاحبي المحل بما فعل.

 

وذاك أن التثليث، هنا، بتكرار لزومه، يبدو مطلبا أصليا للبشر أو ركنا لحالهم في الدنيا أو يبدو وكأنه حال الدنيا. في غرفة ذات نافذة مفتوحة على الخلاء، لا تفلح كوثر وسلمى في استحضار الله لإيقاد الشهوة بالذنب فتكتفيان بتيسير. تأخذان بضرورة هتك السر لشاهد وبضرورة أن ينحصر شهود الهتك بحدّ لا يبطل معه السر من أصله. السرّ ضرورة لوجود الشخص، بما هو فرد، وكشف طرف من ستره ضرورة أيضا ليبدو الفرد شخصا من الشخوص أي لاعبا ذا قناع ودور. اللاعب لا يكفيه من يلعب معه بل لا بدّ له من متفرج.  كذلك يستحضر طاهر زوج سلمى ثالثين يهيجون شهوته حين تتعرى له زوجته ويستكثر من الثالثين مضيفا إليهم من يجوز توهمه. وبالطبع يحيل التثليث إلى التسليم الحاصل في العلوم الاجتماعية باعتبار العلاقة الاجتماعية علاقة بين ثلاثة، على الأقل، ولا تقوم باثنين. والتثليث نفسه يحيل أيضا إلى ما ساقه فرويد في الطوطم والطابو من ضرورة قتل الأب حتى يستقيم للأبناء الذكور أن يكسروا احتكاره الإناث. ففي منطوق هذا الأرختيب أن موضوع المتعة لا بد أن يسلب من آخر وأن الحضارة إنما هي نظام هذا السلب. فيبدو أن التثليث العنيف هو الأصل الذي اشتقت منه ضروب أخرى من التثليث كذاك الذي تزاوله سلمى وكوثر ولا يتكشف عن عنف ظاهر… ما خلا العنف في مناطحته نظام القيم السائد. وهذا عنف يبلغ من الشدة مبلغا يحول بين الشبيبة وبين فهم ما يجري حين يلمح أحدهم كوثر وهي واقفة في الغرفة خلف سلمى المتعرية لتيسير.

 

والحال أن العنف ماثل في كل موضع من رواية حسن داود ذات الطابع الاستراتيجي. في كل حوار يتراءى سعي إلى الغلبة. هي جولات تحصى فيها اللكمات وتلوح في أفقها الضربات القاضية. وكل متعة تؤول إلى طرد من استمتع به بعد استعماله أو هي تتأتى باستخلاصه من يد أخرى بعد ليّ الذراع. هذا والسعي إلى حصر الدائرة التي يسوغ فيها كشف السر جارٍ، طبعا، على قدم وساق في بوادر كل يوم. والسعي إلى هتك الأستار كلها جارٍ أيضا كلما لاحت فرصة. نسجت الحضارة ههنا ما يكفي من الأستار لجعل الاستشفاف الذي يفترضه الفن أمرا ممكنا، إذ هو لازم، لا أمرا محالا. ولكن لا يبدو أن الحضارة نسجت ههنا ما يكفي من الأستار لتمويه أصلها. فلا غرو إن ظهرت الحرب من حواشي العالم الضيق الذي يضطرب فيه شخوص هذه الرواية واجتاحه الخراب من الداخل ومن الخارج.

 

***

 

للوهلة الأولى، تبدو السنون العشرون التي يقول الأخ “الثخين” إنها مضت على وجوده وأخاه في الزهرانية قطعة من الزمن مفرطة الطول بالقياس إلى ما يناسب من زمن لاحتواء سلسلة الحوادث التي تترى حلقاتها في هذه الرواية. فحتى حمْل سلمى بثلاثة أولاد في الدانمرك لا يحتاج إلى هذه المدة. ولولا الإشارة إلى هذا الحمل ومعها إشارة أو اثنتان أخريان لشعرنا أن مائة وثمانين غروبا (وهي ما لا نعلم من الرواية أبدا كيف استوت عنوانا لها) تبقى قصيرة ولكن لا تبدو مفرطة القصر على سلسلة الأحداث تلك. من مجاورة وليد وأخيه لبيت أبي عاطف إلى خمول اشتهاء “الثخين” لزوجة هذا الأخير بعد أن أصبح يتعذر جعلها امرأتين في واحدة: امرأة للشهوة وأخرى للنفور… ومن مباشرة سلمى استثمار تيسير لـ”حرقصة” الشبيبة المتحلقة عند عمود الكهرباء إلى افتضاح تعريها له بعد دخول كوثر اللعبة التي انتقلت من الشرفة إلى الغرفة وزالت عنها صفة اللعب… ومن مباشرة الشبيبة مناكدة تيسير إلى قتل هذا الأخير ميخا مع وصول نذر الحرب إلى الزهرانية… ومن دخول وليد دخولا ملجوما حلقة الشبيبة المسيحيين المترددين على المسبح وتعلقه الخجول ببرناديت إلى انقطاعه عن الحلقة بعد أن أخذت تبدو عليها بوادر الاعتصاب الحربي… ومن تكاثر البنايات التي أنشأها رجل واحد على الهضبة وحل في إحدى شققها الكملجم مروان الذي اشتهته كوثر ضدا يظهر حسنه ضده الذي هو تيسير ويؤدي معه وظيفة وسيط الشهوة نفسها إلى خراب بيوت المسيحيين المحاذية  للبحر ونهبها، إلخ.، إلخ… من هذا إلى ذاك إلى ذلك، يبدو كل شيء قابلا للاحتواء في سنوات أربع أو خمس وغير قابل، في كل حال، للتمدد على عشرين. ففي عشرين سنة، لا يبقى شبيبة عمود الكهرباء شبيبة ولا تبقى البنات قريباتهم بنات قابلات لتحفظ وليد حيالهن ولغرامه المتردد بإحداهن ولا تبقى سلمى هي سلمى وتبقى شهوة زوجها تتقد بملامسات يفترض حصولها في الزهرانية…

 

لعل الرواة الأربعة لا يروون في زمن واحد إذن وإن كانوا يسردون أخبارا متقاطعة. لعل “الثخين”، صاحب محل الألعاب، يروي بعد سنوات كثيرة من أصل العشرين أمضاها وأخاه في صحبة البحر وحده وانتقلت فيها حركة السيارات إلى الأوتوستراد الجديد ومال العمران إلى الابتعاد عن محل الألعاب ومالت التجارة إلى اللحم المشوي. لعلها هذه الخلوة بالبحر سنين كثيرة من أصل العشرين ما احتاج إليه كل شيْ ليصدأ: الحديد وموارد الشهوة في أجسام البشر ومياه الشرب نفسها. ذاك ما انتهت إليه الزهرانية وذاك ما ينتهي إليه كل عمران لا تتولد منه في الأفراد ولا في الجماعة إرادة لدفع غائلة البحر.

 

بيروت في أواسط كانون الثاني 2010

 

 

[1]  كلمة في رواية حسن داود : مائة وثمانون غروبا، دار الساقي، بيروت، 2009.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s